" الثقافة هي ذلك الكل المعقد " هكذا بدأ تايلور تعريفه للثقافة وهو- فيما أعلم – أول تعريف
أنثرو بولوجي لها ، فهي عنده وعاء شامل لكل فاعلية إنسانية من عرف ودين ولغة وكل ما تجري ممارسته في حياة الناس اليومية .
لقد وعى دارسوا الثقافة أهميتها في نقل القيم على سبيل رسالة يؤديها المؤمنون بهذه الأخيرة كأساس لأية نهضة ، وهم بهذا إنما يعكفون على تحديد دورهم الاجتماعي والثقافي ، إنه دور مقدس ونبيل ، الحرص على نوع من القيم وإيجاد مقومات للنهوض أو المحافظة على المجتمع من أي انسلاخ وانحلال محتمل ، ببساطة هذه المهمة التي يضطلع بها كثير من مثقفينا نعتت ومازالت تنعت لدى مؤيديهم بالمحافظة على الموروث الحضاري وتبليغ الرسالة الحضارية للأمة ، كما وصفها معارضوهم بمهمة حراسة القيم وممارسة دور الوصاية على الفكر والثقافة بينما هي في غنى عن كل وصاية ، إنها شيء حي متجدد يفرز قيما متجددة باستمرار مثلما تقتضيه الحال وترسم معالمه الأيام .
فمشكلة الثقافة إذا في إحدى زواياها تكمن في وقوعها بين شقين : شق الرسالة وهو تحديد دور لها لا يتعدى نقل قيم معينة والمحافظة على أسلوب محدد في الحياة ترسم كثيرا من جوانبه العناصر الثقافية التي اتخذت أشكالا معينة في الماضي كالعادات وأنماط التفكير وطرق الوعي بالقضايا الدينية أو القضايا التي يكون للدين موقف منها، وشق التحرير أي تحرير الذات الثقافية من عبء ماضوي وإعادة بناء الذات انطلاقا مما أنتجه العصر من قيم حديثة كانت لدى كثير من الأمم والشعوب قواعد متينة للبناء والتشييد .
هذا المشهد الذي يرسمه واقع الثقافة وتبرزه الممارسات الثقافية الراهنة يوحي بأن ممارسة الثقافة كرسالة إنما هي إيديولوجيا مجرد إيديولوجيا يحاول القابعون وراءها تعميم تفاصيلها وترسيخ أجزائها ، بينما ممارستها ضمن قالب " تحريري " هو بعد عن الأيديولوجيا وتحرر من سلطة المقدسات " اللغة والدين والعادات .." وتحكيم للعقل ، لكن أي عقل ؟ إنه العقل العلمي الذي أنتج قيم التنوير وصنع الحداثة بمفهومها العام ، لكأننا أمام سجنين للفكر متشابهين متماثلين : سجن الماضي بقيمه وأنماطه ، وسجن الحاضر بمعطياته ومفرزاته !!
يتحدث المتحدثون عن الرسالة ويصفونها بالنبالة فمتى يصدق عليها هذا الوصف ؟ الواضح أن نبل الرسالة متصل بنبل القيم التي تنقلها هذه الرسالة ، ونبل القيم متصل بدوره بطبيعة المصدر الذي تنقل عنه هذه القيم ، فحينما يكون الدين الإسلامي مصدرا تنقل عنه قيم على سبيل الرسالة من جيل إلى جيل أو من جماعة إنسانية إلى أخرى تكون هذه القيم ذات شأن على مستوى التداول الاجتماعي وتمنح المكانة العلية في المجتمع ، فلا أحد ينكر قيمة القيم التي أتى بها الإسلام إذ نبلها من نبله وشأنها من شأنه ، وهو أمر متفق عليه اجتماعيا لدى العامة من الناس كما لدى النخبة أيضا .
إن القيم التي تنقل على سبيل الرسالة تتخطى الدين كمصدر إلى مصادر أخرى أوسع وأرحب منها التاريخ والممارسات الاجتماعية التي دأب الناس عليها من عادات وتقاليد وقيم القبيلة والوطن والفئة ...، هذا النقل يغذيه اعتقاد سائد أن استمرار الأمة وإعادة بعثها لن يكون بغير الاستناد إلى قيم الأمة ذاتها وأن الخوف كل الخوف في استبدال هذه القيم بقيم أخرى دخيلة يكون حالها كحال من يغرس غرسا في تربة عقيمة ،اعتقاد صائب وخوف مشروع فلم اعتراض طريق هؤلاء القوم إذا ؟! بينما هم يعملون على إحياء الأمة بإحياء قيمها ، أوليسوا جديرين بالمساندة ؟ أما على المجتمع أن يمد لهم يد المساعدة ؟ الأمر ليس بهذه البساطة لدى الحداثيين ، إنهم ينكرون الركون إلى الوراء بينما يتقدم الزمن وتتفتح البشرية على فضاءات للفكر جديدة وتكتسح مجالات في العلم والمعرفة فلا ينفع بعد هذا ركون إلى وراء ، أو نظر إلى الخلف .
رسالة الحداثي تختلف إذا عن رسالة التراثي ، فبينما يرجع التراثي إلى التراث باحثا عن قيم تلائم أصالته ، يحمل الحداثي هم التحرير أو قل رسالة التحرير ، تحرير المجتمع من قيود التخلف ، ولكن وقبل ذلك تحرير المجتمع من قيود التراث الذي ألقى بثقله على المجتمع وأضحى عبئا ثقيلا يصعب زحزحته خاصة وأن له حراسه الذين يدافعون عنه بكل شراسة نازعين عليه كل سمات القداسة .
لم تكن إشكالية التقليد والتجديد مطروحة كما هي عليه اليوم إلا بعد عصر النهضة إثر الاصطدام الحضاري بين الشرق والغرب حيث فرض الغرب تجربته التقنية والقيمية كمثال حضاري راق أسال لعاب كثير من أبناء الشرق الذين راحوا يقلدون تجربته في مجالات الحياة كافة في الوقت الذي يعيبون التقليد على من خالفهم الرؤية من الذين اتجهوا نحو تقليد القدامى .
التقليد إذا هو السمة البارزة التي اتسم بها الشرق بعد الصدمة الحضارية هذه بينما قصدت نخبه الحداثية التجديد ، ولكن لا جديد ، فقد اختصر الإبداع في استنساخ قيم الحداثة ومحاولة تطبيقها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية ، كما ظل التقليد سمة المقلدين من التراثيين ، فسيان بين تراثي مقلد وحداثي مقلد .
لقد كان اتجاه الحداثيين نحو التجربة الغربية بعد عصر النهضة لغرض تحرير ذهنية الإنسان العربي المسلم مما علق بها من شوائب فكرية وقيمية من خلال تبني قيم الغرب المتطور ، ولكن هذا الاتجاه انتهى بهم أيضا إلى ذات التقديس الذي كانوا يذمونه لدى التراثيين .
لعمري كيف نتصور الأمر، بل كيف نصوره ؟ هل هو رسالة ذلك الفعل المتجه نحو الماضي لنقل قيمه أم أنه قيد ؟ هل هو تحرير ذلك الفعل المنبهر بمفرزات الحاضر الآخذ بقيمه أم أنه قيد وأسر ؟ .
لم تكن نزعة التقليد لدى الشرق سوى انعكاس واضح لتلك الصدمة الحضارية التي ولدت عقدة حضارية خطيرة أصبحت ( أي هذه العقدة ) المتحكم الرئيس في سلوك الفاعلين الثقافيين والاجتماعيين ، مثلما تخلف الصدمة لدى الفرد عقدا نفسية يعسر على المختص النفسي معالجتها .
لقد ارتبطت العقدة لدى التراثيين بالخوف على عناصر التراث من عناصر ثقافية وافدة تدعمها تجربة ناجحة في مجال التقنية ، كما ارتبطت لدى الحداثيين بالانبهار الشديد بالقيم التي ركبها الغرب وأدت إلى تطوره وازدهاره ونبذ التشبث بالقيم التي ظل يتداولها الشرق دون أن يجني من ذلك شيئا بل وبقي بفعلها على حالة التخلف قرون عديدة .
العقدة في مبناها ومعناها أسر وقيد ، فكما هي أسر للفرد حيث يتصرف بمقتضاها ويصبح على حالة نفسية تستدعي العلاج فإنها كذلك أسر للجماعة حيث يتحدد بفعلها سلوكها الاجتماعي والثقافي ، ولما كانت النخب الثقافية خلايا مكونة للجماعة فإن سلوك هذه النخب – حداثييها وتراثييها – تتدخل في تحديده هذه العقدة الناتجة عن صدمة الالتقاء بين الشرق والغرب.
ربما يعد تحريرا ذا حدود ذلك الاتجاه الذي يسلكه كثير من مثقفينا نحو التوفيق بين قيم التراث وقيم الحداثة إذ يفتحون مجالهم الثقافي لقيم التراث كما يفتحونه أيضا لقيم المعاصرة ، وتزداد قيمة اتجاههم هذا حينما يؤصلون نظرتهم ثم يطعمونا بما جد في مجال العلم والمعرفة ، وبذلك يعملون على التحرر من سلطة التراث المطلقة كما يعملون في الوقت نفسه على التحرر من سلطة الحداثة ، وهم على هذه الحال إنما يؤدون رسالتهم الحضارية من خلال الانتقاء النوعي للقيم بإلغاء المجال الزماني لها بينما يوفرون لها مجالا مكانيا معايير القبول فيه : التنمية والتطور متصلة بالذات والهوية .
تحرر نلمس نسبيته في ندرة الإبداع الثقافي ووقوع هذه الفئة من النخبة ( فئة التوفيقيين ) موقع الممثل لطرفي الصراع ( التراثي والحداثي ) من جهة وآدائها لوظيفة التخفيف من حدة الصراع بإيجاد حل وسط يؤمن بهذا ويقبل ذاك .
لكن ورغم نسبية التحرير الذي يمكن أن تجنيه الثقافة من اتجاه هذه الفئة لأن طرحها فيه شيء من السطحية والبساطة فإن مجرد القبول الذي يلغي الرفض هو اتجاه فعلي نحو التحرر من سلطة الشيء ، والشيء هنا هو قيم ثقافة ما أصيلة كانت أم معاصرة .
في العرف الثقافي نجد الجواب على سؤال: إلام تستند الرسالة ؟ ومم يكون التحرير ؟ ذا بداهة ووضوح، فالرسالة هي الأمانة في نقل القيم والتحرير هدم لتلك القيم، وذلك حينما تكون حال الثقافة حال صراع بين تياري الأصالة والمعاصرة ، ولكن يمكن لنا أن نتمثل تيارا واحدا يجمع بين الرسالة والتحرير على الأقل في تصوره هو ، فالتراثي الذي ينقل قيما دأب عيها أجداده يرى أنها المخلص والمحرر للجماعة من جملة القيود التي أفرزتها سيرورة الحياة الاجتماعية ، وكذلك الحداثي الذي يحاول نقل قيم الغرب على سبيل واجب اجتماعي ورسالة حياتية يرى في هذه القيم السبيل إلى التحرر الاجتماعي والثقافي ، فالرسالة والتحرير يمكن أن يكونا على صف واحد لدى فريق واحد .
لكن اعتقاد الجمع بين الرسالة والتحرير يأسر جماعات النخبة في وهم الحقيقة حيث يعتبر كل فريق أنه ينقل الحقيقة إذ ينقل نوعا من القيم ويعمل على التحرير من ذات المنطلق بمحاولة زحزحة قيم لصالح قيم " الحقيقة " هذه ، وهنا يبدو لنا أن الرسالة بدءا هي تحرير لقيم معينة بمحاولة تحريكها نحو المكان الذي " يجب " أن تشغله ، كما أن التحرير في ذاته رسالة يحملها الحالمون بالتغيير، المتطلعون نحو الأفضل في الثقافة ، الأفضل في الحياة .
يبدو إذا أن ثمة إمكانية للتآلف بين آداء الرسالة الحضارية وممارسة التحرير الحضاري لدى فئة بعينها من النخبة بعدما سلمنا تفكيرنا ووجهنا نظرنا لعلاقة الإلغاء المتبادل بين الرسالة والتحرير لدى نخبنا الفكرية والثقافية : إلغاء الرسالة للتحرير وإلغاء التحرير للرسالة .
إن عمليات الإلغاء والقبول والائتلاف والاختلاف عمليات ثقافية وفكرية لا يمكن إلغاؤها فهي ضرورة اجتماعية وثقافية لها فعلها الإيجابي أو السلبي في توجيه المجتمع والثقافة ، لذلك كان حريا بنا توجيه هذه العمليات بوعي ودراية فنقبل ونرفض ونختلف ونأتلف ونلغي ونتجاوز ونحلل و نركب وفقا لهذا الوعي الذي يضع نصب عينيه المجال الثقافي العام دونما تمييز بين ماض وحاضر أو بين أصالة ومعاصرة ، ولكن يأخد الثمين فيثمنه ويترك الرديء ويزدريه ، وبهذا فقط نستطيع أن نرسم خطا للانطلاق نحو التقدم ، فليس التقدم كنزا نحفر عليه في الماضي ولا هو هبة تمنحنا أياها الحداثة وقيمها ، وليست هذه نظرة توفيقية بالمعنى الذي سبق ، ولكنها نظرة تلغي الإلغاء الثقافي دون أن تقف عند هذا الحد بل تدعو إلى تحريك أدوات الإبداع الثقافي والفكري من نقد وتركيب وتفكيك وبناء وتجاوز .....، وبذلك وحده يكون للرسالة معناها كما يكون للتحرير أيضا معناه .
نشر المقال بجريدة القدس العربي اللندنية يوم 14/07/2009 عدد6254 وهومتوفر على الرابط :http://www.alquds.co.uk/archives/2009/07/07-13/qad.pdf
لقد وعى دارسوا الثقافة أهميتها في نقل القيم على سبيل رسالة يؤديها المؤمنون بهذه الأخيرة كأساس لأية نهضة ، وهم بهذا إنما يعكفون على تحديد دورهم الاجتماعي والثقافي ، إنه دور مقدس ونبيل ، الحرص على نوع من القيم وإيجاد مقومات للنهوض أو المحافظة على المجتمع من أي انسلاخ وانحلال محتمل ، ببساطة هذه المهمة التي يضطلع بها كثير من مثقفينا نعتت ومازالت تنعت لدى مؤيديهم بالمحافظة على الموروث الحضاري وتبليغ الرسالة الحضارية للأمة ، كما وصفها معارضوهم بمهمة حراسة القيم وممارسة دور الوصاية على الفكر والثقافة بينما هي في غنى عن كل وصاية ، إنها شيء حي متجدد يفرز قيما متجددة باستمرار مثلما تقتضيه الحال وترسم معالمه الأيام .
فمشكلة الثقافة إذا في إحدى زواياها تكمن في وقوعها بين شقين : شق الرسالة وهو تحديد دور لها لا يتعدى نقل قيم معينة والمحافظة على أسلوب محدد في الحياة ترسم كثيرا من جوانبه العناصر الثقافية التي اتخذت أشكالا معينة في الماضي كالعادات وأنماط التفكير وطرق الوعي بالقضايا الدينية أو القضايا التي يكون للدين موقف منها، وشق التحرير أي تحرير الذات الثقافية من عبء ماضوي وإعادة بناء الذات انطلاقا مما أنتجه العصر من قيم حديثة كانت لدى كثير من الأمم والشعوب قواعد متينة للبناء والتشييد .
هذا المشهد الذي يرسمه واقع الثقافة وتبرزه الممارسات الثقافية الراهنة يوحي بأن ممارسة الثقافة كرسالة إنما هي إيديولوجيا مجرد إيديولوجيا يحاول القابعون وراءها تعميم تفاصيلها وترسيخ أجزائها ، بينما ممارستها ضمن قالب " تحريري " هو بعد عن الأيديولوجيا وتحرر من سلطة المقدسات " اللغة والدين والعادات .." وتحكيم للعقل ، لكن أي عقل ؟ إنه العقل العلمي الذي أنتج قيم التنوير وصنع الحداثة بمفهومها العام ، لكأننا أمام سجنين للفكر متشابهين متماثلين : سجن الماضي بقيمه وأنماطه ، وسجن الحاضر بمعطياته ومفرزاته !!
يتحدث المتحدثون عن الرسالة ويصفونها بالنبالة فمتى يصدق عليها هذا الوصف ؟ الواضح أن نبل الرسالة متصل بنبل القيم التي تنقلها هذه الرسالة ، ونبل القيم متصل بدوره بطبيعة المصدر الذي تنقل عنه هذه القيم ، فحينما يكون الدين الإسلامي مصدرا تنقل عنه قيم على سبيل الرسالة من جيل إلى جيل أو من جماعة إنسانية إلى أخرى تكون هذه القيم ذات شأن على مستوى التداول الاجتماعي وتمنح المكانة العلية في المجتمع ، فلا أحد ينكر قيمة القيم التي أتى بها الإسلام إذ نبلها من نبله وشأنها من شأنه ، وهو أمر متفق عليه اجتماعيا لدى العامة من الناس كما لدى النخبة أيضا .
إن القيم التي تنقل على سبيل الرسالة تتخطى الدين كمصدر إلى مصادر أخرى أوسع وأرحب منها التاريخ والممارسات الاجتماعية التي دأب الناس عليها من عادات وتقاليد وقيم القبيلة والوطن والفئة ...، هذا النقل يغذيه اعتقاد سائد أن استمرار الأمة وإعادة بعثها لن يكون بغير الاستناد إلى قيم الأمة ذاتها وأن الخوف كل الخوف في استبدال هذه القيم بقيم أخرى دخيلة يكون حالها كحال من يغرس غرسا في تربة عقيمة ،اعتقاد صائب وخوف مشروع فلم اعتراض طريق هؤلاء القوم إذا ؟! بينما هم يعملون على إحياء الأمة بإحياء قيمها ، أوليسوا جديرين بالمساندة ؟ أما على المجتمع أن يمد لهم يد المساعدة ؟ الأمر ليس بهذه البساطة لدى الحداثيين ، إنهم ينكرون الركون إلى الوراء بينما يتقدم الزمن وتتفتح البشرية على فضاءات للفكر جديدة وتكتسح مجالات في العلم والمعرفة فلا ينفع بعد هذا ركون إلى وراء ، أو نظر إلى الخلف .
رسالة الحداثي تختلف إذا عن رسالة التراثي ، فبينما يرجع التراثي إلى التراث باحثا عن قيم تلائم أصالته ، يحمل الحداثي هم التحرير أو قل رسالة التحرير ، تحرير المجتمع من قيود التخلف ، ولكن وقبل ذلك تحرير المجتمع من قيود التراث الذي ألقى بثقله على المجتمع وأضحى عبئا ثقيلا يصعب زحزحته خاصة وأن له حراسه الذين يدافعون عنه بكل شراسة نازعين عليه كل سمات القداسة .
لم تكن إشكالية التقليد والتجديد مطروحة كما هي عليه اليوم إلا بعد عصر النهضة إثر الاصطدام الحضاري بين الشرق والغرب حيث فرض الغرب تجربته التقنية والقيمية كمثال حضاري راق أسال لعاب كثير من أبناء الشرق الذين راحوا يقلدون تجربته في مجالات الحياة كافة في الوقت الذي يعيبون التقليد على من خالفهم الرؤية من الذين اتجهوا نحو تقليد القدامى .
التقليد إذا هو السمة البارزة التي اتسم بها الشرق بعد الصدمة الحضارية هذه بينما قصدت نخبه الحداثية التجديد ، ولكن لا جديد ، فقد اختصر الإبداع في استنساخ قيم الحداثة ومحاولة تطبيقها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية ، كما ظل التقليد سمة المقلدين من التراثيين ، فسيان بين تراثي مقلد وحداثي مقلد .
لقد كان اتجاه الحداثيين نحو التجربة الغربية بعد عصر النهضة لغرض تحرير ذهنية الإنسان العربي المسلم مما علق بها من شوائب فكرية وقيمية من خلال تبني قيم الغرب المتطور ، ولكن هذا الاتجاه انتهى بهم أيضا إلى ذات التقديس الذي كانوا يذمونه لدى التراثيين .
لعمري كيف نتصور الأمر، بل كيف نصوره ؟ هل هو رسالة ذلك الفعل المتجه نحو الماضي لنقل قيمه أم أنه قيد ؟ هل هو تحرير ذلك الفعل المنبهر بمفرزات الحاضر الآخذ بقيمه أم أنه قيد وأسر ؟ .
لم تكن نزعة التقليد لدى الشرق سوى انعكاس واضح لتلك الصدمة الحضارية التي ولدت عقدة حضارية خطيرة أصبحت ( أي هذه العقدة ) المتحكم الرئيس في سلوك الفاعلين الثقافيين والاجتماعيين ، مثلما تخلف الصدمة لدى الفرد عقدا نفسية يعسر على المختص النفسي معالجتها .
لقد ارتبطت العقدة لدى التراثيين بالخوف على عناصر التراث من عناصر ثقافية وافدة تدعمها تجربة ناجحة في مجال التقنية ، كما ارتبطت لدى الحداثيين بالانبهار الشديد بالقيم التي ركبها الغرب وأدت إلى تطوره وازدهاره ونبذ التشبث بالقيم التي ظل يتداولها الشرق دون أن يجني من ذلك شيئا بل وبقي بفعلها على حالة التخلف قرون عديدة .
العقدة في مبناها ومعناها أسر وقيد ، فكما هي أسر للفرد حيث يتصرف بمقتضاها ويصبح على حالة نفسية تستدعي العلاج فإنها كذلك أسر للجماعة حيث يتحدد بفعلها سلوكها الاجتماعي والثقافي ، ولما كانت النخب الثقافية خلايا مكونة للجماعة فإن سلوك هذه النخب – حداثييها وتراثييها – تتدخل في تحديده هذه العقدة الناتجة عن صدمة الالتقاء بين الشرق والغرب.
ربما يعد تحريرا ذا حدود ذلك الاتجاه الذي يسلكه كثير من مثقفينا نحو التوفيق بين قيم التراث وقيم الحداثة إذ يفتحون مجالهم الثقافي لقيم التراث كما يفتحونه أيضا لقيم المعاصرة ، وتزداد قيمة اتجاههم هذا حينما يؤصلون نظرتهم ثم يطعمونا بما جد في مجال العلم والمعرفة ، وبذلك يعملون على التحرر من سلطة التراث المطلقة كما يعملون في الوقت نفسه على التحرر من سلطة الحداثة ، وهم على هذه الحال إنما يؤدون رسالتهم الحضارية من خلال الانتقاء النوعي للقيم بإلغاء المجال الزماني لها بينما يوفرون لها مجالا مكانيا معايير القبول فيه : التنمية والتطور متصلة بالذات والهوية .
تحرر نلمس نسبيته في ندرة الإبداع الثقافي ووقوع هذه الفئة من النخبة ( فئة التوفيقيين ) موقع الممثل لطرفي الصراع ( التراثي والحداثي ) من جهة وآدائها لوظيفة التخفيف من حدة الصراع بإيجاد حل وسط يؤمن بهذا ويقبل ذاك .
لكن ورغم نسبية التحرير الذي يمكن أن تجنيه الثقافة من اتجاه هذه الفئة لأن طرحها فيه شيء من السطحية والبساطة فإن مجرد القبول الذي يلغي الرفض هو اتجاه فعلي نحو التحرر من سلطة الشيء ، والشيء هنا هو قيم ثقافة ما أصيلة كانت أم معاصرة .
في العرف الثقافي نجد الجواب على سؤال: إلام تستند الرسالة ؟ ومم يكون التحرير ؟ ذا بداهة ووضوح، فالرسالة هي الأمانة في نقل القيم والتحرير هدم لتلك القيم، وذلك حينما تكون حال الثقافة حال صراع بين تياري الأصالة والمعاصرة ، ولكن يمكن لنا أن نتمثل تيارا واحدا يجمع بين الرسالة والتحرير على الأقل في تصوره هو ، فالتراثي الذي ينقل قيما دأب عيها أجداده يرى أنها المخلص والمحرر للجماعة من جملة القيود التي أفرزتها سيرورة الحياة الاجتماعية ، وكذلك الحداثي الذي يحاول نقل قيم الغرب على سبيل واجب اجتماعي ورسالة حياتية يرى في هذه القيم السبيل إلى التحرر الاجتماعي والثقافي ، فالرسالة والتحرير يمكن أن يكونا على صف واحد لدى فريق واحد .
لكن اعتقاد الجمع بين الرسالة والتحرير يأسر جماعات النخبة في وهم الحقيقة حيث يعتبر كل فريق أنه ينقل الحقيقة إذ ينقل نوعا من القيم ويعمل على التحرير من ذات المنطلق بمحاولة زحزحة قيم لصالح قيم " الحقيقة " هذه ، وهنا يبدو لنا أن الرسالة بدءا هي تحرير لقيم معينة بمحاولة تحريكها نحو المكان الذي " يجب " أن تشغله ، كما أن التحرير في ذاته رسالة يحملها الحالمون بالتغيير، المتطلعون نحو الأفضل في الثقافة ، الأفضل في الحياة .
يبدو إذا أن ثمة إمكانية للتآلف بين آداء الرسالة الحضارية وممارسة التحرير الحضاري لدى فئة بعينها من النخبة بعدما سلمنا تفكيرنا ووجهنا نظرنا لعلاقة الإلغاء المتبادل بين الرسالة والتحرير لدى نخبنا الفكرية والثقافية : إلغاء الرسالة للتحرير وإلغاء التحرير للرسالة .
إن عمليات الإلغاء والقبول والائتلاف والاختلاف عمليات ثقافية وفكرية لا يمكن إلغاؤها فهي ضرورة اجتماعية وثقافية لها فعلها الإيجابي أو السلبي في توجيه المجتمع والثقافة ، لذلك كان حريا بنا توجيه هذه العمليات بوعي ودراية فنقبل ونرفض ونختلف ونأتلف ونلغي ونتجاوز ونحلل و نركب وفقا لهذا الوعي الذي يضع نصب عينيه المجال الثقافي العام دونما تمييز بين ماض وحاضر أو بين أصالة ومعاصرة ، ولكن يأخد الثمين فيثمنه ويترك الرديء ويزدريه ، وبهذا فقط نستطيع أن نرسم خطا للانطلاق نحو التقدم ، فليس التقدم كنزا نحفر عليه في الماضي ولا هو هبة تمنحنا أياها الحداثة وقيمها ، وليست هذه نظرة توفيقية بالمعنى الذي سبق ، ولكنها نظرة تلغي الإلغاء الثقافي دون أن تقف عند هذا الحد بل تدعو إلى تحريك أدوات الإبداع الثقافي والفكري من نقد وتركيب وتفكيك وبناء وتجاوز .....، وبذلك وحده يكون للرسالة معناها كما يكون للتحرير أيضا معناه .
نشر المقال بجريدة القدس العربي اللندنية يوم 14/07/2009 عدد6254 وهومتوفر على الرابط :http://www.alquds.co.uk/archives/2009/07/07-13/qad.pdf
تحياتنا
ردحذف