السبت، 1 أغسطس 2009

" نحو جامعة وطنية "

سفيان ميمون

" نحو جامعة وطنية " عنوان مقال كتب عام ثلاثة و ثمانين و تسعمائة و ألف و كان كاتبه واحدا من أعلام الجزائر البارزين في مجال التاريخ و الثقافة : إنه الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله ، كتب المقال و أودعه بين دفتي كتابه " أفكار جامحة " الذي يضم مقالات كثيرة نشرت هنا و هناك .
لم تكن إحدى مقالات الكتاب لتشد نظري – رغم قيمتها الكبيرة – كما شدتني أفكار هذا المقال و عنوانه ، لم أشعر أبدا أن هذا انتقاء مقصود ، بل عرفت لتوي أن الأمر يتعلق بتلك العلاقة الكامنة التي تربط الذات بالواقع ، حتى إذا وقعت العين على صورة هذه العلاقة مدبجة في مقال ، أو مجسمة في صورة من الصور ارتجت الذات و اهتزت و بدا لها و كأن كاتب المقال أو مصور اللوحة إنما فعل ذلك لإشفاء غليلها و تلبية فضولها ليس إلا ......
يقين الدكتور سعد الله أن " الجامعة مؤسسة وطنية قبل أن تكون مؤسسة أكاديمية ، وباعتبارها مؤسسة وطنية يفترض فيها أن توحد و لا تفرق و أن تجمع و لا تشتت " كان هذا الافتراض و التطلع لجامعة وطنية مؤسسا على جملة من الأحداث التي ميزت جامعة الثمانينات و أحدثت هزات عنيفة في بناء الجامعة كاد يهوي بها في مستنقعات خطيرة تتصل بالقبلية ، ومراعاة المصالح الضيقة للزمر التي بيدها دوائر القرار ، و تغذية المشاعر العرقية التي تطورت إلى دعوات انفصالية .
لم يستسغ الدكتور سعد الله غياب استراتيجية جامعية تبقي الجامعة مركزا جامعا لفئات المجتمع و أطيافه المختلفة ، فراح يسرد على أحد المسؤولين الكبار الذي استدعاه ليعرف رأيه في الأحداث التي تعرفها الجامعة آنذاك آراءه الحكيمة ، و كيف لا يحظى بذلك و هو الأستاذ الممارس صاحب الخبرة في الميدان ، لقد كان يرى بصراحة بعد أن تعددت الجامعات ومراكزها ، و انتشرت في عديد المناطق ، أن الحل يكمن في تخصص كل جامعة من الجامعات الجديدة بتخصص تعدمه جامعة غيرها حتى تكون قبلة لكل الطلاب من جميع مناطق الوطن ، فلا يكون هناك تقوقع لطلاب و أساتذة منطقة بعينها على جامعة منطقتهم ، و في هذا سبيل معبد للانفتاح الثقافي الذي يقمع كل انغلاق و تعصب و يجتث كل دعوة انفصالية متطرفة قبل أن تولد ، ليس هذا فحسب بل لقد كان الدكتور سعد الله يرى في صرامة التسيير وسيلة للحفاظ على النظام العام تماما كما هو حال الثكنة العسكرية التي تخضع لنظام صارم لا يجب المحيد عنه ، و لإحداث توازن ثقافي لابد من التقاء إطارات مختلفة اللغة من أجل إلغاء الهيمنة الثقافية التي يمكن أن تنتج عن الخلفية الثقافية للغة الواحدة باعتبارها وعاء ثقافيا و فكريا ، و حاملة لنوع من الثقافة يتماهى مع شكل و طبيعة هذه اللغة ، و طبعا يستثني الدكتور سعد الله اللغة الوطنية باعتبارها عامل جمع و إدماج في بوتقة الوطنية و عنصرا رئيسا من عناصرها .
كما يرى ضرورة إحداث حركية جامعية بين الطلاب و الأساتذة فيسجل طالب الدراسات العليا مثلا في غير جامعته التي حصل فيها على شهادة التدرج ، و لا يوظف الأستاذ في الجامعة التي تخرج منها إلا بعد مدة من الزمن استبعادا للعلاقات الشخصية التي يمكن لها أن تحل محل مبدأ الكفاءة الذي يعد عماد الجامعات القوية المحترمة .
الآن و بعد مضي ما يقارب ثلاثة عقود ماذا تغير في الجامعة الجزائرية ؟ هل وجدت الأسباب التي أدت إلى الاضطرابات الجامعية و التي تحولت إلى أزمة ثقافية و سياسية و وطنية طريقها إلى المعالجة أم أنها مازالت قائمة ؟ هل تدرجنا في تحقيق شيء من مشروع الوطنية أم أن اهتمامنا بالوطنية لم يعد له معنى ؟
الناظر إلى الجامعة الجزائرية اليوم يرى حجم التغير الذي طال الهياكل الجامعية حيث اتسعت رقعتها و ازداد عددها و كدنا نرى لكل قرية جامعة كما تضاعف عدد الطلاب و صرنا نضرب المثل عن أنفسنا بهذا التطور غير المسبوق في عدد الرقاب التي تملأ الساحات الجامعية صانعة بذلك ديكورا جميلا نادرا ، إنها لعبة الكم و الكيف التي يتقنها مسؤولوا الجامعة، لعبة التفاخر بالكم و العدد من أجل التغطية على رداءة الكيف و هشاشته . مما تغير أيضا توفر الجامعة على عدد لا يستهان به من المنظمات الطلابية و الجمعيات الثقافية و الرياضية مما يوحي بأن مجتمع الجامعة مؤطر من خلال ممثلي الطلبة و الأساتذة الذين يملكون سندا قانونيا توفره لهم هذه المنظمات و الجمعيات و هو الأمر الذي يساعد على تحقيق وطنية جامعية من خلال التفاعل البناء الذي تضمنه النشاطات الثقافية و الرياضية وحتى الاحتجاجات الرامية إلى الحفاظ على حق الطالب و الأستاذ ، لكن هذا الأمر – للأسف – مازال مؤجلا إلى زمن تنجلي فيه رواسب القبلية الموروثة عن جامعة الثمانينات و عقلية المصلحة الشخصية التي ازدادت ترسخا في وعي مجتمع الجامعة ، فعن أي وطنية نتحدث و واقع المنظمات الطلابية ينبئنا يوما بعد يوم أنها تحولت إلى هيئات للبزنسة و الربح السريع ، طلاب لا تتوفر فيهم شروط القيادة و لا مؤهلات الثقافة قابعون على رأس منظمات و جمعيات الطلبة سنين عديدة مكونين دوائر مغلقة تحتلها زمر معينة ، ثم عن أي وطنية نتحدث و بناء كثير من منظمات الطلبة و جمعياتهم هو بناء جغرافي حتى لا نقول أنه بناء عرقي ، فكثير من الطلبة الذين يلجون الجامعة لأول مرة يجدون أمامهم هذه المنظمات و الجمعيات قوالب جاهزة تترصدهم آملة في ضمهم إلى صفوفها من أجل تقوية الساعد و زيادة النفوذ ، مستخدمة في ذلك العلاقات الشخصية و الانتماء الجهوي لمنطقة من المناطق ، و هكذا نكون أمام منظمات وجمعيات ذات طابع جهوي ، و بتفكير و ثقافة الجهة التي ينتمي إليها منتسبوهذه المنظمات والجمعيات ، فماذا ننتظر من هذا ؟ هل ننتظر تفاعلا بناء يثري الثقافة و يعزز الوطنية لدى طلبتنا ، إطارات الغد ؟ كلا إن الأمر في غاية الخطورة ، إن أخطر حرب هي حرب الكل ضد الكل ، حرب الثقافات الجهوية الممتزجة بأيديولوجيات مبرمجة ، و نزعات سياسية مغلفة، فهل بقي ثمة حديث عن وطنية الجامعة ؟!
ثم انظر في الجانب النقابي الاحتجاجي لعمل منظمات الطلبة هل تجد لها سعيا في مجال الثقافة و الأخلاق مثلا ؟ لا أحد ينكر التدهور الحاصل في هذين المستويين ، لكن تركيز الاحتجاجات ينصب فقط على الجانب الاجتماعي ( الإيواء و النقل و المنحة ) لأنه الجانب الأكثر استقطابا لجموع الطلبة حيث تعمل الزمر النافذة في هذه المنظمات على استغلالهم لأغراض سياسية و أيديولوجية و منفعية .
إننا اليوم كما بالأمس في حاجة ماسة إلى استراتيجية جامعية تضع وطنية الجامعة في مقدمة اهتماماتها قبل أي تدبير آخر ، فلا أكاديمية و لا علمية بدون وطنية ، يشهد على هذا سيطرة بعض الزمر على كثير من جامعاتنا و مراكزنا الجامعية و تسييرها لمسابقات التوظيف والماجستير بكيفية توافق مزاجها و هواها ، و بالقدر الذي يسمح لها بالمحافظة على الوضع القائم من خلال ضمان استبعاد عناصر لا تكون في متناولها و يمكن لها أن تشكل تهديدا لاستمرار مصالحها .
إنها ذهنية المصلحة التي تلغي الوطن هذه التي تشكل مزاجنا الثقافي العام ، فكم هي حمقاء هذه الذهنية ، كم هم حمقى أولئك الذين ينتجون باستمرار أسباب تخلف الجامعة و المجتمع ، لأن التخلف خطر كاسح يهدد الجميع ، فيا له من وضع جامعي لم يعرف جوهره التغيير نحو الأفضل بينما تغير شكل الجامعة ليعلن عن نفسه حجة لمن يصطادون في الماء العكر .
نشر المقال بالملحق الثقافي لجريدة الجزائر نيوز يوم30/06/2009 -عدد الملحق- 179 وهو متوفر على الرابط:http://djazairnews.info/index.php?option=com_content&view=article&id=482:2009-06-29-17-11-36&catid=37:2009-03-26-18-28-26&Itemid=56

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق