الجمعة، 13 سبتمبر 2013

الجليس الغريب



سفيان ميمون

الجليس سلسلة حصص فكرية قدمها التلفزيون الجزائري نهاية التسعينات ، لقد أجلس مقدم الحصة إلى جنبه قامات فكرية كبيرة محاورا إياهم ومستنطقا منطقهم في التفكير والتحليل : النبهاني قريبع ، عبد المجيد مزيان ، حمودة بن ساعي ، رابح بلعيد ....والقائمة طويلة .

لقد اصطاد مقدم الحصة طيورا فكرية نادرة وقربها من الناس مثقفيهم وعامتهم ، فسمعوا واستمتعوا وإذا بهم يطلبون محاورة من تم محاورته من جديد ، وأذكر أن الأستاذ النبهاني قريبع رحمه الله كان محل مطالبة لإعادة محاورته من جديد فكان للجمهور ما أراد .

ولئن كان مألوفا أن يمتع من يجلس من المفكرين على منبر من المنابر ويفيد مستمعيه وناظريه فإن الغريب أن تصادف مفكرين بلغوا من العلم مبلغا بسلوك مسلك ليس كباقي المسالك التي توصل إلى القمة ، فمنهم من كانت له همة ، فوصل إلى مارنا إليه برغم المشاق ، ومنهم من عاد فلاحا يسكن كوخا كما كان رغم أنه جاب قبل هذا الآفاق .

مثال الجليس الغريب رجلان ، أما الأول فهو حمودة بن ساعي المفكر الذي نشط خلال فترة إقامة مالك بن نبي في باريس فكان صاحبا له لا يفارقه بل يلاقيه كل ليلة ليدارسه الفلسفة والفكر ، وليس هذا بغائب ولكنه مذكور في كتاب " مذكرات شاهد القرن" الذي ألفه المرحوم مالك بن نبي ، وفي هذا الكتاب نجد إقرارا من بن نبي بفضل حمودة بن ساعي على تكوينه الفكري والفلسفي واكتسابه لبعد النظر والتحليل السوسيولوجي ، لقد كان هذا الفيلسوف قريبا من المستشرق الفرنسي الكبير "لويس ماسينيون " الذي كان يفتح أذنيه جيدا ملتزما الصمت عندما يتحدث بنى ساعي ، فإذا تحدث حمودة بن ساعي سكت ماسينيون كما يذكر مالك بن نبي .

لم تكشف الجليس هذا الفيلسوف إذا فهو أكبر من أن يكتشف ولكنها كشفت مآله ، فالمآل يدمي القلب ويحزن الحال ، لقد بحثت  الجليس عن الرجل فوجدته في إحدى قرى باتنة مهمشا مهشما جريحا ، ناقما دون رغبة منه في الانتقام ، بعيدا عن الأضواء منعزلا عن الأنام ، لقد وجد طاقم الحصة صعوبة جمة في الحديث إليه باسم الصحافة فتنكروا ، وضربوا معه موعدا للحوار الأسبوع الذي تلا لقاءه لكنهم عادوا ليخبرونا أن الأمر تعذر عليهم ، ليس لأن الرجل استنكف عن الحوار ولكن لأن الرجل قد لحق بربه . مشهد مؤثر وغريب ، قاس ومبك ، ليس لوفاة الرجل الفيلسوف ، ولكن لحال فلا سفتنا كيف يعيشون وكيف يموتون .

وأما الرجل الثاني فهو رابح بلعيد الذي انتسب إلى جامعة باتنة كأستاذ للعلوم السياسية ، وكان عام سبعة وتسعين جليسا غريبا بقصته ومساره في تكوين شخصيته العلمية ، لقد اقتصرت الحصة على سرد لسيرة الأستاذ ، وقلما طرحت عليه الأفكار ليناقشها ، فالأهم هو كيف وصل إلى ما وصل إليه كأستاذ مرموق في العلوم السياسية وتاريخ الجزائر ، لم يجد مقدم الحصة الوصف الملائم الذي ينعته به: أستاذ ، مفكر ، رحالة ...فهي أوصاف تجتمع فيه .

الغريب أن تجد أستاذا أو مفكرا لم يدخل المدرسة قط ، وهي الميزة الأساسية التي ميزت الرجل ، فالدكتور رابح بلعيد لم يدخل المدرسة أبدا ، لكنه غامر وقدم طلبا لجامعة سان فرانسيسكو الأمريكية فتم قبوله وأصبح طالبا بالجامعة حتى حصل على الليسانس وأضاف عامين فيما بعد التدرج دون أن يحصل على الماجستير التي حصل عليها وعلى الدكتوراه بعد ذلك من جامعة القاهرة .

لقد تحدث الرجل عن سيرته مذ كان صبيا في إحدى قرى عين الدفلى الفلاحية وماسحا للأحدية في العاصمة وعاملا بسيطا في مطابخ سفن الحلفاء التي نزلت بالجزائر خلال الحرب العالمية الثانية ، لقد كان عمله في سفن الحلفاء ومعاناته من الظلم والتمييز الاجتماعي الذي فرضه الاستعمار الفرنسي دافعا قويا لتفكيره في التخفي داخل إحدى السفن والهجرة نحو إيطاليا ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث عمل في البحر لخمس سنوات تعلم خلالها اللغة الإنجليزية وراح يطمح للدراسة في الجامعة حتى أصابها في جامعة سان فرانسيسكو .

لكم نحن بحاجة إلى مثل هذه الحصص اليوم ، فهي حصص تدفع الناس إلى التعلق بهؤلاء المفكرين وجعلهم قدوة لهم ، لكم نحن بحاجة إلى ذلك في هذا الزمن الذي انحط فيه كل شيء حتى الانحطاط نفسه ، فالانحطاط اليوم عام وشامل : انحطاط في الأخلاق ، انحطاط في الذوق ، انحطاط في السلوك ...وهلم جرا، ورغم هذا لا نجد حرصا كبيرا من مؤسساتنا الإعلامية على إنتاج حصص ذات قيمة مثلما كانت الجليس ، أو أن يبادر التلفزيون الجزائري بالإفراج عن هذه الحصص التي يحتكرها فيعيد بثها حتى تعم الفائدة ، إننا في زمن لا يعار فيه العلم أهمية ولا تمنح الثقافة الحقة قيمتها التي تستحقها ، فهم الإعلام اليوم هو تمييع الثقافة وتمييع الاهتمام بالعلم لدى الناشئة من خلال مختلف أنواع المخدرات الفكرية : الاهتمام الزائد بالكرة والسياسة والفن الساقط ....

إن ما نلمسه من حياة حمودة بن ساعي هو التهميش الذي يلقاه المثقف في الجزائر ، فالثقافة ليست العملة الأساسية التي يتداولها الناس ، بل قد تكون خصما تحارب ويصبح المثقف عدوا لذودا يجب إبعاده ليس سياسيا فقط ولكن اجتماعيا أيضا كما هي حال حمودة بن ساعي ، كما أن العبرة التي تؤخذ من حياة رابح بلعيد هي التحدي في طلب العلم وفرض الوجود في الحياة .

الاستبعاد الاجتماعي والثقافي هي ميزة مجتمعاتنا بامتياز ، فهذه المجتمعات لم تكتف بتهميش المثقفين الذين تزعجهم فوضى النظام الاجتماعي السائد ، ولكنها تعمد إلى إبعادهم عن الحياة ، فعندما ترى مثقفي المجتمع في عيشة ضنك ، فاندب وجهك وابك ، وقل : بلادي السلام عليك .


نشر المقال بجريدة القدس العربي  اللندنية بعنوان " الاستبعاد الاجتماعي والثقافي ميزة مجتمعاتنا بامتياز" يوم 03/10/2013 عدد 7555 . الرابط : http://www.alquds.co.uk/?p=89804

كما نشر يوم 25/10/2013 بجريدة الخبر الجزائرية بعنوانه الأصلي( الجليس الغريب) عدد7233. الرابط : http://www.elkhabar.com/ar/index.php?op=print&news=362659

السبت، 17 أغسطس 2013

السوسيولوجيا بين الوحدة والتعدد



سفيان ميمون

هناك سؤال جوهري طالما طرحت حوله الأسئلة ودارت بشأنه النقاشات وهو : هل هناك سوسيولوجيا واحدة باعتبار أن نظريات العلم ومناهجه هي نفسها في الشمال والجنوب والشرق والغرب ، أم أن هناك سوسيولوجيات عديدة تبعا لتعدد المجتمعات التي يمارس فيها العلم ؟   
لقد شكل هذا التساؤل فعلا اهتمام كثير من علماء الاجتماع فراحوا يجيبون عنه من منطلق قناعاتهم المختلفة ، كما حاولوا الإجابة عنه من خلال مواقعهم الأيديولوجية أيضا ، فعلم الاجتماع حسب الرواية الأولى ( الذين يرون أن هناك سوسيولوجيا واحدة ) يرون أن علم الاجتماع نشأ خلال سيرورة تاريخية واجتماعية معينة وتدرج في نشأته – شأنه شأن المجتمعات التي يدرسها – من البسيط إلى المعقد ، فاكتسب بذلك العديد من النظريات والمناهج التي تطورت مع تطور الدراسات السوسيولوجية ، فأصبحت هذه النظريات والمناهج أساسية في أي عمل علمي ، فلا يمكن للباحث السوسيولوجي أن يستغني عن نظريات بحجم البنائية الوظيفية والماركسية مثلا في تحليل المجتمعات التي يدرسها لأن المفاهيم المستخدمة في التحليل لا تخرج عن إطار الاتساق والتوازن والتكامل مما يدخل في تكوين النظرية البنائية الوظيفية ، أو الصراع والتغير الاجتماعي مما يدخل في تكوين النظرية الماركسية .
إن أصحاب هذه الرؤية ينظرون إلى نظريات ومناهج علم الاجتماع باعتبارها قاعدة خلفية يستند إليها الباحثون الاجتماعيون لتفسير المجتمعات التي يدرسونها ، فمهما كانت طبيعة المجتمع المدروس فإنه يمكن اللجوء إلى مفاهيم وطرق وتقنيات هذه النظريات والمناهج باعتبارها تشكل مصدرا لا غنى عنه من الآليات والوسائل التي تساعد الباحثين في دراساتهم وأبحاثهم .
أما الرؤية الثانية  فهي مؤسسة على عدم التسليم بسوسيولوجيا واحدة وإنما بتعدد السوسيولوجيات تبعا لتعدد المجتمعات ، فطالما أن هناك مجتمعات مختلفة في بيئتها وثقافتها فإن الأمر يقتضي إيجاد علم اجتماع عربي وعلم اجتماع غربي وعلم اجتماع لأمريكا الجنوبية .....الخ ، وهناك محاولات للتأصيل النظري من خلال تفسير الظواهر الاجتماعية بردها إلى مجالها البيئي ، كما هو الحال بالنسبة لبعض السوسيولوجيين المسلمين الذين يحاولون تفسير الظواهر الاجتماعية الحاصلة في مجتمعاتهم من منطلق البيئة الاسلامية ومختلف أطرها النظرية كآي القرآن والسنة النبوية الشريفة ..الخ .
لكن الرؤيتين كلتيهما ما فتئتا تتعرضان للنقد فالذين يؤمنون بضرورة تعميم علم الاجتماع الغربي بنظرياته ومناهجه باعتباره علما عاما وشاملا – كثيرا ما يغلبون ماهو نظري على ماهو واقعي بينما من مبادئ العلم الأساسية أن تستخدم النظريات والمناهج كأدوات مساعدة على التحليل فقط ، لا أن تفرض نفسها على هذا الواقع فتغيره وتضفي عليه ما ليس فيه ، وقد أشار إلى هذا الدكتور علي الكنز في إحدى آرائه حينما أوضح أن كثيرا من باحثينا يقومون بتطويع الواقع لصالح النظرية وليس العكس مزيفين بذلك الواقع الذي يدرسونه .
كما أن الذين يؤمنون بضرورة تعدد السوسيولوجيات وفقا لتعدد المجتمعات مطالبون بتطوير نظريات خاصة نابعة من مجتمعات الدراسة وليس الاكتفاء بنقد السوسيولوجيا الغربية ، وفي المجتمعات الاسلامية نجد بعض المفكرين الذين وضعوا بعض الأسس للتنظير السوسيولوجي الاسلامي على غرار المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي تحدث عن المجتمع والثقافة وأسس تشكلهما مما يستدعي الاهتمام وتطوير هذه الرؤى. 

السبت، 8 يونيو 2013

المثقف بين الوضع والدور


سفيان ميمون

إذا كانت الثقافة في مفهومها العام هي ذلك النشاط العقلي والممارسة السلوكية للأفراد فإن المثقف هو الذي يؤدي هذا النشاط ويمارس ذلك السلوك ، ولذلك كانت الثقافة عملة المثقف بها يتعامل ومن أجلها يسعى ، إذ أن الثقافة هي الأداة والهدف في الوقت نفسه ، فهي أداة لأن المثقف يفكر ويتأمل بفعل ما تشكل لديه من قيم وأفكار ، وهي الهدف المنشود أيضا حينما ينخرط المثقف في التأسيس لأيديولوجية المجتمع عبر المدرسة والإعلام والجامعة والأدب....
إن التأسيس لأيديولوجية ما لا يتوقف عند مجرد اكتساب المعارف وإعادة إنتاجها كما هي دون نقد ولكن باكتساب المثقف للعقل الناقد المبدع لذلك يرى محمد أركون أن المثقف هو " ذلك العامل المنخرط في أعمال معرفية تتطلب بالضرورة استخداما نقديا للعقل " فالانخراط الذي يريده أركون هو انخراط في المعرفة ومقتضياتها وليس انخراطا في قوالب أيديولوجية ما تطبق على المثقف وتجعل منه عبدا مطيعا، إنه يريد المثقف الناقد والنقد يحيل بالضرورة على الحرية .
لطالما نادى المفكرون والأدباء بحرية الثقافة ودعوا إلى تحرير المثقفين من مختلف الأطر التي تنمط تفكيرهم ، ويمكن أن نذكر هنا كمثال رؤية المفكر علي حرب وما يدعوا إليه صراحة من ضرورة التخلص من الأوهام التي علقت بذهن المثقف ، ففي كتابه "أوهام النخبة" يرى حرب أنه من واجب المثقف أن يموضع نفسه في خانة الانتاج والابداع والنقد الثقافي وهي حسبه المهمة الوحيدة التي يجب أن يضطلع بها ، لذلك يعيب على المثقفين انصرافهم إلى مهام أخرى وتقمص أدوار ليست لهم ، كتقمص دور السياسي والداعية أو النبي والكاهن .....
لقد كانت هذه الأدوار حسب علي حرب نتاجا حقيقيا لجملة من الأوهام التي تقيد ذهن المثقف وتصرفه عن ممارسة النقد للنقد والإبداع لذاته ،  فوهم "الهوية" مثلا جعل المثقف متمسكا ومنشغلا بالتراث بينما الواجب هو الاشتغال عليه والتجديد فيه ، مثلما غلف وهم     " الحداثة"ذهن المثقف وجعله يتوهم الحرية بابتعاده عن التراث ولكنه – في الحقيقة – يخضع لتراث آخر هو تراث الآخرين ، وبهذا يلتقي من يدعوا إلى الهوية والتراث مع من يدعوا إلى الحداثة والتجديد في التبعية والتقليد .
إن حرية المثقف في ممارسة التفكير والنقد لا تعني – البتة – انفصاله المطلق عن السياق الاجتماعي والتاريخي الذي يمارس فيه عمله بقدر ما تعني وعيه بما يحيط به واستيعابه لمختلف التفاصيل الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية في حركيتها المستمرة ، أي أنه على المثقف أن يكون قادرا على إدراك وضعه الاجتماعي وتفكيك السياق الثقافي الذي يمارس فيه عمله ، ومن هذا المنطلق يرى هشام شرابي أن ما يميز المثقف صفتان اثنتان : الوعي الاجتماعي الذي يسمح للمثقف بالنظر إلى قضايا المجتمع وتحليلها من منظور شامل والدور الاجتماعي الذي يؤديه المثقف بدافع وعيه المكتسب .
هناك إذا جدلية صريحة بين الوعي والدور فبينما يمكن الوعي الدور من الأداء الفعال نتيجة الإحاطة بالواقع الاجتماعي وفهمه وتحليله ، يزيد الدور الوعي وعيا إضافيا نتيجة الممارسة الميدانية ، فالممارسة الميدانية تكشف للمثقف عن عوامل جديدة لم يكن يعرفها ، وهو يعمل دائما على تجديد وعيه وفقا لهذا الدور وبهذا فقط يستطيع أن يقدم أداء راقيا يستفيد منه الجميع .
إن وعي المثقف بوضعه الاجتماعي يطرح كيفية تعاطيه مع هذا الوضع ، فتارة يقبل به ويسانده  وتارة أخرى ينبذه وينخرط في تيار التغيير فيكون المثقف هنا مثقفا ملتزما ومنحازا إلى طبقة أو جماعة معينة ، ويقدم الصراع الاجتماعي في صورة صراع ثقافي يقوده المثقفون الذين يلزم كل واحد منهم إحدى هذه الطبقات أو الجماعات ، وفي سياق الحديث عن المجتمعات الطبقية تبدو بوضوح قضية التزام المثقف بمبادئ طبقته  وهذا أمر مألوف ، فالطبقة لها دور كبير في تشكيل المثقفين وتأميمهم للدفاع عن فلسفتها والحفاظ على بقائها واستمرارها وهو أمر وإن أحال إلى خضوع المثقف إلى فلسفة الطبقة ومصالحها فإنه يحيل أيضا إلى وعيه بمبادئ هذه الطبقة وأهدافها .
لقد حاول بعض المحللين الماركسيين ممن اهتموا بالبنية الفوقية ودورها في التشكيل الاجتماعي أن يوضحوا هذا الأمر ، فمن هؤلاء نجد المفكر الإيطالي " أنطونيو غرا مشي"الذي ربط ربطا جدليا بين المثقف باعتباره ممثلا للبنية الفوقية والطبقة باعتبارها مجموعة  من العلاقات الاجتماعية التي تشكل البنية التحتية ، فالطبقة عنده لا بد أن تتخذ لنفسها مجموعة من المثقفين الذين يدافعون عنها بعدما تقوم بإنتاجهم أو استيعابهم ،
ف" غر امشي " يطرح قضية تبعية المثقف وتحرره من خلال سؤال طرحه وراح يجيب عنه في كتاب " قضايا المادية التاريخية ": هل يشكل المثقفون طبقة اجتماعية قائمة بذاتها ، أم أن لكل طبقة اجتماعية فئة متخصصة من المثقفين ؟ ، ينفي غرا مشي في جوابه عن السؤال الذي طرحه اتفاق المثقفين وتكتلهم ويقر بالشتات والانشطار ، فكل فئة من هؤلاء المثقفين تنتمي إلى طبقة اجتماعية معينة ، وهو بهذا لا يشد عن التصور الماركسي العام الذي يقدم البنية التحتية أساسا للبنية الفوقية ، والذي يؤدي بالضرورة إلى مسألة عكسية وهي غاية الطبقة وسر بقائها حيث البنية الفوقية – في النهاية –هي التي تحافظ على شكل العلاقات والأنماط الاجتماعية المشكلة للبنية التحتية .
إن القول بتبعية المثقفين إلى إحدى الطبقات الاجتماعية لا ينفي تحررهم بشكل مطلق ، فتبعية المثقف وتحرره لا يشكلان تناقضا بقدر ما يصنعان ترتيبا أنيقا ، فالمثقف من خلال انتمائه إلى الطبقة البروليتارية مثلا يسعى إلى تحرير المجتمع من وحشية العلاقات القائمة في سياق النظام الرأسمالي ، كما أن التماهي مع مبادئ الطبقة والإيمان بها يجعل المثقف متحررا من أي ضغط أو إكراه ، فدور المثقف ونشاطه الذي يؤديه لصالح الطبقة التي ينتمي إليها هو الذي يحدد مدى قوة هذه الطبقة ، كما يحدد في الوقت نفسه وضع المثقف ومكانته داخلها .
قد يكون التزام المثقف بقضايا جماعة أو طبقة معينة مرتبطا بضغوط السياسة ومغريات المال وهي قضية مطروحة في عصرنا الحاضر ، فانتماء المثقف إلى مؤسسة إعلامية معينة تجعل منه ناقلا أمينا لمبادئها وأهدافها مهمشا بذلك آراءه وتصوراته ، لأنه ببساطة باع كفاءته ، ونذر نفسه وعقله لهذه المؤسسة ، إن الفاصل في هذه القضية هو اتفاق أيديولوجية المثقف مع أيديولوجية المؤسسة والقائمين عليها ، لكن الأمر ليس هينا فالمثقف اليوم صار مترنحا في اختياره بين رزقه ومبادئه ، وكثيرا ما يختار الرزق – قبل الفلسفة – لإثبات الوجود .