السبت، 1 أغسطس 2009

الثقافة بين " الرسالة " و "التحرير".

سفيان ميمون
" الثقافة هي ذلك الكل المعقد " هكذا بدأ تايلور تعريفه للثقافة وهو- فيما أعلم – أول تعريف

أنثرو بولوجي لها ، فهي عنده وعاء شامل لكل فاعلية إنسانية من عرف ودين ولغة وكل ما تجري ممارسته في حياة الناس اليومية .
لقد وعى دارسوا الثقافة أهميتها في نقل القيم على سبيل رسالة يؤديها المؤمنون بهذه الأخيرة كأساس لأية نهضة ، وهم بهذا إنما يعكفون على تحديد دورهم الاجتماعي والثقافي ، إنه دور مقدس ونبيل ، الحرص على نوع من القيم وإيجاد مقومات للنهوض أو المحافظة على المجتمع من أي انسلاخ وانحلال محتمل ، ببساطة هذه المهمة التي يضطلع بها كثير من مثقفينا نعتت ومازالت تنعت لدى مؤيديهم بالمحافظة على الموروث الحضاري وتبليغ الرسالة الحضارية للأمة ، كما وصفها معارضوهم بمهمة حراسة القيم وممارسة دور الوصاية على الفكر والثقافة بينما هي في غنى عن كل وصاية ، إنها شيء حي متجدد يفرز قيما متجددة باستمرار مثلما تقتضيه الحال وترسم معالمه الأيام .
فمشكلة الثقافة إذا في إحدى زواياها تكمن في وقوعها بين شقين : شق الرسالة وهو تحديد دور لها لا يتعدى نقل قيم معينة والمحافظة على أسلوب محدد في الحياة ترسم كثيرا من جوانبه العناصر الثقافية التي اتخذت أشكالا معينة في الماضي كالعادات وأنماط التفكير وطرق الوعي بالقضايا الدينية أو القضايا التي يكون للدين موقف منها، وشق التحرير أي تحرير الذات الثقافية من عبء ماضوي وإعادة بناء الذات انطلاقا مما أنتجه العصر من قيم حديثة كانت لدى كثير من الأمم والشعوب قواعد متينة للبناء والتشييد .
هذا المشهد الذي يرسمه واقع الثقافة وتبرزه الممارسات الثقافية الراهنة يوحي بأن ممارسة الثقافة كرسالة إنما هي إيديولوجيا مجرد إيديولوجيا يحاول القابعون وراءها تعميم تفاصيلها وترسيخ أجزائها ، بينما ممارستها ضمن قالب " تحريري " هو بعد عن الأيديولوجيا وتحرر من سلطة المقدسات " اللغة والدين والعادات .." وتحكيم للعقل ، لكن أي عقل ؟ إنه العقل العلمي الذي أنتج قيم التنوير وصنع الحداثة بمفهومها العام ، لكأننا أمام سجنين للفكر متشابهين متماثلين : سجن الماضي بقيمه وأنماطه ، وسجن الحاضر بمعطياته ومفرزاته !!
يتحدث المتحدثون عن الرسالة ويصفونها بالنبالة فمتى يصدق عليها هذا الوصف ؟ الواضح أن نبل الرسالة متصل بنبل القيم التي تنقلها هذه الرسالة ، ونبل القيم متصل بدوره بطبيعة المصدر الذي تنقل عنه هذه القيم ، فحينما يكون الدين الإسلامي مصدرا تنقل عنه قيم على سبيل الرسالة من جيل إلى جيل أو من جماعة إنسانية إلى أخرى تكون هذه القيم ذات شأن على مستوى التداول الاجتماعي وتمنح المكانة العلية في المجتمع ، فلا أحد ينكر قيمة القيم التي أتى بها الإسلام إذ نبلها من نبله وشأنها من شأنه ، وهو أمر متفق عليه اجتماعيا لدى العامة من الناس كما لدى النخبة أيضا .
إن القيم التي تنقل على سبيل الرسالة تتخطى الدين كمصدر إلى مصادر أخرى أوسع وأرحب منها التاريخ والممارسات الاجتماعية التي دأب الناس عليها من عادات وتقاليد وقيم القبيلة والوطن والفئة ...، هذا النقل يغذيه اعتقاد سائد أن استمرار الأمة وإعادة بعثها لن يكون بغير الاستناد إلى قيم الأمة ذاتها وأن الخوف كل الخوف في استبدال هذه القيم بقيم أخرى دخيلة يكون حالها كحال من يغرس غرسا في تربة عقيمة ،اعتقاد صائب وخوف مشروع فلم اعتراض طريق هؤلاء القوم إذا ؟! بينما هم يعملون على إحياء الأمة بإحياء قيمها ، أوليسوا جديرين بالمساندة ؟ أما على المجتمع أن يمد لهم يد المساعدة ؟ الأمر ليس بهذه البساطة لدى الحداثيين ، إنهم ينكرون الركون إلى الوراء بينما يتقدم الزمن وتتفتح البشرية على فضاءات للفكر جديدة وتكتسح مجالات في العلم والمعرفة فلا ينفع بعد هذا ركون إلى وراء ، أو نظر إلى الخلف .
رسالة الحداثي تختلف إذا عن رسالة التراثي ، فبينما يرجع التراثي إلى التراث باحثا عن قيم تلائم أصالته ، يحمل الحداثي هم التحرير أو قل رسالة التحرير ، تحرير المجتمع من قيود التخلف ، ولكن وقبل ذلك تحرير المجتمع من قيود التراث الذي ألقى بثقله على المجتمع وأضحى عبئا ثقيلا يصعب زحزحته خاصة وأن له حراسه الذين يدافعون عنه بكل شراسة نازعين عليه كل سمات القداسة .
لم تكن إشكالية التقليد والتجديد مطروحة كما هي عليه اليوم إلا بعد عصر النهضة إثر الاصطدام الحضاري بين الشرق والغرب حيث فرض الغرب تجربته التقنية والقيمية كمثال حضاري راق أسال لعاب كثير من أبناء الشرق الذين راحوا يقلدون تجربته في مجالات الحياة كافة في الوقت الذي يعيبون التقليد على من خالفهم الرؤية من الذين اتجهوا نحو تقليد القدامى .
التقليد إذا هو السمة البارزة التي اتسم بها الشرق بعد الصدمة الحضارية هذه بينما قصدت نخبه الحداثية التجديد ، ولكن لا جديد ، فقد اختصر الإبداع في استنساخ قيم الحداثة ومحاولة تطبيقها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية ، كما ظل التقليد سمة المقلدين من التراثيين ، فسيان بين تراثي مقلد وحداثي مقلد .
لقد كان اتجاه الحداثيين نحو التجربة الغربية بعد عصر النهضة لغرض تحرير ذهنية الإنسان العربي المسلم مما علق بها من شوائب فكرية وقيمية من خلال تبني قيم الغرب المتطور ، ولكن هذا الاتجاه انتهى بهم أيضا إلى ذات التقديس الذي كانوا يذمونه لدى التراثيين .
لعمري كيف نتصور الأمر، بل كيف نصوره ؟ هل هو رسالة ذلك الفعل المتجه نحو الماضي لنقل قيمه أم أنه قيد ؟ هل هو تحرير ذلك الفعل المنبهر بمفرزات الحاضر الآخذ بقيمه أم أنه قيد وأسر ؟ .
لم تكن نزعة التقليد لدى الشرق سوى انعكاس واضح لتلك الصدمة الحضارية التي ولدت عقدة حضارية خطيرة أصبحت ( أي هذه العقدة ) المتحكم الرئيس في سلوك الفاعلين الثقافيين والاجتماعيين ، مثلما تخلف الصدمة لدى الفرد عقدا نفسية يعسر على المختص النفسي معالجتها .
لقد ارتبطت العقدة لدى التراثيين بالخوف على عناصر التراث من عناصر ثقافية وافدة تدعمها تجربة ناجحة في مجال التقنية ، كما ارتبطت لدى الحداثيين بالانبهار الشديد بالقيم التي ركبها الغرب وأدت إلى تطوره وازدهاره ونبذ التشبث بالقيم التي ظل يتداولها الشرق دون أن يجني من ذلك شيئا بل وبقي بفعلها على حالة التخلف قرون عديدة .
العقدة في مبناها ومعناها أسر وقيد ، فكما هي أسر للفرد حيث يتصرف بمقتضاها ويصبح على حالة نفسية تستدعي العلاج فإنها كذلك أسر للجماعة حيث يتحدد بفعلها سلوكها الاجتماعي والثقافي ، ولما كانت النخب الثقافية خلايا مكونة للجماعة فإن سلوك هذه النخب – حداثييها وتراثييها – تتدخل في تحديده هذه العقدة الناتجة عن صدمة الالتقاء بين الشرق والغرب.
ربما يعد تحريرا ذا حدود ذلك الاتجاه الذي يسلكه كثير من مثقفينا نحو التوفيق بين قيم التراث وقيم الحداثة إذ يفتحون مجالهم الثقافي لقيم التراث كما يفتحونه أيضا لقيم المعاصرة ، وتزداد قيمة اتجاههم هذا حينما يؤصلون نظرتهم ثم يطعمونا بما جد في مجال العلم والمعرفة ، وبذلك يعملون على التحرر من سلطة التراث المطلقة كما يعملون في الوقت نفسه على التحرر من سلطة الحداثة ، وهم على هذه الحال إنما يؤدون رسالتهم الحضارية من خلال الانتقاء النوعي للقيم بإلغاء المجال الزماني لها بينما يوفرون لها مجالا مكانيا معايير القبول فيه : التنمية والتطور متصلة بالذات والهوية .
تحرر نلمس نسبيته في ندرة الإبداع الثقافي ووقوع هذه الفئة من النخبة ( فئة التوفيقيين ) موقع الممثل لطرفي الصراع ( التراثي والحداثي ) من جهة وآدائها لوظيفة التخفيف من حدة الصراع بإيجاد حل وسط يؤمن بهذا ويقبل ذاك .
لكن ورغم نسبية التحرير الذي يمكن أن تجنيه الثقافة من اتجاه هذه الفئة لأن طرحها فيه شيء من السطحية والبساطة فإن مجرد القبول الذي يلغي الرفض هو اتجاه فعلي نحو التحرر من سلطة الشيء ، والشيء هنا هو قيم ثقافة ما أصيلة كانت أم معاصرة .
في العرف الثقافي نجد الجواب على سؤال: إلام تستند الرسالة ؟ ومم يكون التحرير ؟ ذا بداهة ووضوح، فالرسالة هي الأمانة في نقل القيم والتحرير هدم لتلك القيم، وذلك حينما تكون حال الثقافة حال صراع بين تياري الأصالة والمعاصرة ، ولكن يمكن لنا أن نتمثل تيارا واحدا يجمع بين الرسالة والتحرير على الأقل في تصوره هو ، فالتراثي الذي ينقل قيما دأب عيها أجداده يرى أنها المخلص والمحرر للجماعة من جملة القيود التي أفرزتها سيرورة الحياة الاجتماعية ، وكذلك الحداثي الذي يحاول نقل قيم الغرب على سبيل واجب اجتماعي ورسالة حياتية يرى في هذه القيم السبيل إلى التحرر الاجتماعي والثقافي ، فالرسالة والتحرير يمكن أن يكونا على صف واحد لدى فريق واحد .
لكن اعتقاد الجمع بين الرسالة والتحرير يأسر جماعات النخبة في وهم الحقيقة حيث يعتبر كل فريق أنه ينقل الحقيقة إذ ينقل نوعا من القيم ويعمل على التحرير من ذات المنطلق بمحاولة زحزحة قيم لصالح قيم " الحقيقة " هذه ، وهنا يبدو لنا أن الرسالة بدءا هي تحرير لقيم معينة بمحاولة تحريكها نحو المكان الذي " يجب " أن تشغله ، كما أن التحرير في ذاته رسالة يحملها الحالمون بالتغيير، المتطلعون نحو الأفضل في الثقافة ، الأفضل في الحياة .
يبدو إذا أن ثمة إمكانية للتآلف بين آداء الرسالة الحضارية وممارسة التحرير الحضاري لدى فئة بعينها من النخبة بعدما سلمنا تفكيرنا ووجهنا نظرنا لعلاقة الإلغاء المتبادل بين الرسالة والتحرير لدى نخبنا الفكرية والثقافية : إلغاء الرسالة للتحرير وإلغاء التحرير للرسالة .
إن عمليات الإلغاء والقبول والائتلاف والاختلاف عمليات ثقافية وفكرية لا يمكن إلغاؤها فهي ضرورة اجتماعية وثقافية لها فعلها الإيجابي أو السلبي في توجيه المجتمع والثقافة ، لذلك كان حريا بنا توجيه هذه العمليات بوعي ودراية فنقبل ونرفض ونختلف ونأتلف ونلغي ونتجاوز ونحلل و نركب وفقا لهذا الوعي الذي يضع نصب عينيه المجال الثقافي العام دونما تمييز بين ماض وحاضر أو بين أصالة ومعاصرة ، ولكن يأخد الثمين فيثمنه ويترك الرديء ويزدريه ، وبهذا فقط نستطيع أن نرسم خطا للانطلاق نحو التقدم ، فليس التقدم كنزا نحفر عليه في الماضي ولا هو هبة تمنحنا أياها الحداثة وقيمها ، وليست هذه نظرة توفيقية بالمعنى الذي سبق ، ولكنها نظرة تلغي الإلغاء الثقافي دون أن تقف عند هذا الحد بل تدعو إلى تحريك أدوات الإبداع الثقافي والفكري من نقد وتركيب وتفكيك وبناء وتجاوز .....، وبذلك وحده يكون للرسالة معناها كما يكون للتحرير أيضا معناه .
نشر المقال بجريدة القدس العربي اللندنية يوم 14/07/2009 عدد6254 وهومتوفر على الرابط :http://www.alquds.co.uk/archives/2009/07/07-13/qad.pdf

علاقة الهوية بالدين لدى النخبة العلمانية

سفيان ميمون
ثمة اختلاف بين في النظر إلى الهوية وارتباطها بالدين بين المشرق والمغرب، نتيجة التركيبة الاجتماعية والدينية التي تميز أقطار الوطن العربي، فسمة المشرق العربي تعدد واختلاف الطوائف الدينية في مجتمعاته ، لذلك نجد اختلافا واضحا في التصورات والرؤى حول الهوية ، بل ونجد صراعا ثقافيا وسعيا أيديولوجيا لترسيخ تصور ما عن هوية مجتمع بذاته ، خذ لذلك مثلا سعي القوميين العرب لتسويق تصور عن الهوية قائم على الوطن واللغة بعيد عن الدين ، يقابل هذا حرص على إثبات الدين كعنصر أساس من عناصر الهوية لدى الإسلاميين ، وهو واقع مبرر في مجتمعات متمايزة في خصوصياتها الدينية ، وعلى العكس من ذلك نجد في مجتمعات المغرب العربي انسجاما كبيرا في الخطاب الثقافي حول علاقة الهوية بالدين ، وإن كانت العلاقة بين الهوية وعناصر أخرى يشوبها كثير من التوتر على غرار اللغة والتاريخ نتيجة التمايز العرقي الذي يمثله عنصرا العرب والبربر، انسجام واضح في الخطاب الثقافي بين مختلف فئات النخبة المغاربية والجزائرية تحديدا – إسلامييها وعلمانييها – حول اعتبار الدين عنصرا من عناصر الهوية ،فإذا كان تصور الإسلاميين للهوية واضحا ومحسوما مذ اختاروا اتجاههم الفكري والديني في الوقت نفسه بأن الدين ركن أساس في هوية الأمة ، فإن الذي يدعو إلى التأمل والسؤال هو اتجاه العلمانيين إلى إنتاج ذات الخطاب حيث الدين أيضا مكون أساس للهوية الجماعية ، فهل يتماشى هذا الخطاب مع حقيقة التصور العلماني للمجتمع ؟ وهل يمكن للدين أن يكون حاضرا في مجتمع يجب أن يفصل عن الدين ؟.
قبل هذا لا بد من الرجوع إلى الممارسة العلمانية التي لا تثبت – ولا شك- على صيغة واحدة ، إنما هي أكثر من شكل ، شكلان على ما يبدو : علمانية متطرفة تلغي الدين وتقصيه وتضع الحواجز أمامه كي لا يمر إلى المجتمع بل يبقى حبيس الشخص لا يتعداه ، وهي علمانوية صراعية بتعبير محمد أركون ، تقابلها علمانية تقبل الدين كتراث خصب للدراسة والتأويل العقلاني ، وهذا النوع من العلمانية هو الذي يركز عليه كثير من مفكرينا ، لكن قبول هذه الفئة من العلمانيين بالدين لا يعني تجاوزه حدود الشخص وإحاطته بهالة من القداسة على المستوى الاجتماعي، كلا بل إن العلمانية لا تعرف للدين قداسة وإلا لما كان ثمة قدرة على الدراسة العلمية لنصوصه ، ولما كانت هناك حرية في تدبر محتويات هذه النصوص .
وتنظر هذه الفئة من العلمانيين إلى نصوص الدين الإسلامي وعلى رأسها القرآن كنص أول على أنه نص بشري وليس نصا إلهيا لاعتبارات الفهم والتأويل والتفسير وهي صفات بشرية تتجه من البشر إلى النص القرآني ، فهو بهذا اتجاه لإقرار فلسفة مايريده البشر من هذا النص وليس مايريده النص من هؤلاء البشر ، إنها تعمل على أنسنة الحياة الاجتماعية من خلال تغيير أماكن السلطة بين العقل والنص الديني حيث السلطة للعقل أي للإنسان.
فخطاب النخبة العلمانية عن علاقة الدين بالهوية في أحد جوانبه – وأنا أتحدث هنا عن النخبة الجزائرية والمغاربية عموما – هو خطاب ائتلاف وتلازم : الهوية تقوم على الدين والدين مكون أساس من مكونات الهوية، لكنه خطاب منفعي على مايبدو ، فرضته حتمية المحافظة على البقاء ، وأدى إليه الخوف من الرفض الاجتماعي ، حيث المجتمع لا يقدس من لا يقدس مقدسه ، بل يمقته ولا يصغي له في قول ، خطاب غير منسجم مع ذاته رغم أنه يبدو مؤتلفا مع خطابات أخرى في حقل أيديولوجي مختلف ومتنوع ، فبينما تدعو العلمانية إلى حصر الدين في حدود الشخص وإبطال تطبيق الحدود والأحكام التي جاء بها النص الديني – القرآن – بداعي الحرية الشخصية كعنوان عن إبعاد الدين عن المجتمع ، نجدها تصر في خطاباتها على أن الدين من مكونات الهوية الثقافية للأمة ، إنه تناقض واضح وصريح لأن الدين هنا لن يكون سوى مكون من مكونات الهوية الفردية أو الشخصية بينما هم يتحدثون عن الهوية الجماعية . قد يكون من الضروري أن نفهم أن نخبنا العلمانية تنظر إلى الدين الإسلامي كمرادف للثقافة الإسلامية ،بينما هو مختلف عنها لأننا إذا نظرنا إلى الدين وجدناه ملزما في حدوده وأحكامه عكس الثقافة التي تتسم بالمرونة وتقبل الأخذ والرد وفق الحاجة ،فالثقافة الإسلامية يمكن أن تكون أسا من أسس الهوية لدى العلمانيين على خلاف الدين الذي لايمكنه ذلك لأنه مقصى في الواقع من خلال تعطيل النصوص التي تتضمن الحدود والأحكام، لربما هو نوع من التقية الثقافية والفكرية حيال المجتمع هذا الذي تسوق له خطابات نخبنا العلمانية .
نشر المقال بالملحق الثقافي لجريدة الجزائر نيوزيوم09/06/2009 -عدد الملحق- 176 الرابط غير متوفر.

" نحو جامعة وطنية "

سفيان ميمون

" نحو جامعة وطنية " عنوان مقال كتب عام ثلاثة و ثمانين و تسعمائة و ألف و كان كاتبه واحدا من أعلام الجزائر البارزين في مجال التاريخ و الثقافة : إنه الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله ، كتب المقال و أودعه بين دفتي كتابه " أفكار جامحة " الذي يضم مقالات كثيرة نشرت هنا و هناك .
لم تكن إحدى مقالات الكتاب لتشد نظري – رغم قيمتها الكبيرة – كما شدتني أفكار هذا المقال و عنوانه ، لم أشعر أبدا أن هذا انتقاء مقصود ، بل عرفت لتوي أن الأمر يتعلق بتلك العلاقة الكامنة التي تربط الذات بالواقع ، حتى إذا وقعت العين على صورة هذه العلاقة مدبجة في مقال ، أو مجسمة في صورة من الصور ارتجت الذات و اهتزت و بدا لها و كأن كاتب المقال أو مصور اللوحة إنما فعل ذلك لإشفاء غليلها و تلبية فضولها ليس إلا ......
يقين الدكتور سعد الله أن " الجامعة مؤسسة وطنية قبل أن تكون مؤسسة أكاديمية ، وباعتبارها مؤسسة وطنية يفترض فيها أن توحد و لا تفرق و أن تجمع و لا تشتت " كان هذا الافتراض و التطلع لجامعة وطنية مؤسسا على جملة من الأحداث التي ميزت جامعة الثمانينات و أحدثت هزات عنيفة في بناء الجامعة كاد يهوي بها في مستنقعات خطيرة تتصل بالقبلية ، ومراعاة المصالح الضيقة للزمر التي بيدها دوائر القرار ، و تغذية المشاعر العرقية التي تطورت إلى دعوات انفصالية .
لم يستسغ الدكتور سعد الله غياب استراتيجية جامعية تبقي الجامعة مركزا جامعا لفئات المجتمع و أطيافه المختلفة ، فراح يسرد على أحد المسؤولين الكبار الذي استدعاه ليعرف رأيه في الأحداث التي تعرفها الجامعة آنذاك آراءه الحكيمة ، و كيف لا يحظى بذلك و هو الأستاذ الممارس صاحب الخبرة في الميدان ، لقد كان يرى بصراحة بعد أن تعددت الجامعات ومراكزها ، و انتشرت في عديد المناطق ، أن الحل يكمن في تخصص كل جامعة من الجامعات الجديدة بتخصص تعدمه جامعة غيرها حتى تكون قبلة لكل الطلاب من جميع مناطق الوطن ، فلا يكون هناك تقوقع لطلاب و أساتذة منطقة بعينها على جامعة منطقتهم ، و في هذا سبيل معبد للانفتاح الثقافي الذي يقمع كل انغلاق و تعصب و يجتث كل دعوة انفصالية متطرفة قبل أن تولد ، ليس هذا فحسب بل لقد كان الدكتور سعد الله يرى في صرامة التسيير وسيلة للحفاظ على النظام العام تماما كما هو حال الثكنة العسكرية التي تخضع لنظام صارم لا يجب المحيد عنه ، و لإحداث توازن ثقافي لابد من التقاء إطارات مختلفة اللغة من أجل إلغاء الهيمنة الثقافية التي يمكن أن تنتج عن الخلفية الثقافية للغة الواحدة باعتبارها وعاء ثقافيا و فكريا ، و حاملة لنوع من الثقافة يتماهى مع شكل و طبيعة هذه اللغة ، و طبعا يستثني الدكتور سعد الله اللغة الوطنية باعتبارها عامل جمع و إدماج في بوتقة الوطنية و عنصرا رئيسا من عناصرها .
كما يرى ضرورة إحداث حركية جامعية بين الطلاب و الأساتذة فيسجل طالب الدراسات العليا مثلا في غير جامعته التي حصل فيها على شهادة التدرج ، و لا يوظف الأستاذ في الجامعة التي تخرج منها إلا بعد مدة من الزمن استبعادا للعلاقات الشخصية التي يمكن لها أن تحل محل مبدأ الكفاءة الذي يعد عماد الجامعات القوية المحترمة .
الآن و بعد مضي ما يقارب ثلاثة عقود ماذا تغير في الجامعة الجزائرية ؟ هل وجدت الأسباب التي أدت إلى الاضطرابات الجامعية و التي تحولت إلى أزمة ثقافية و سياسية و وطنية طريقها إلى المعالجة أم أنها مازالت قائمة ؟ هل تدرجنا في تحقيق شيء من مشروع الوطنية أم أن اهتمامنا بالوطنية لم يعد له معنى ؟
الناظر إلى الجامعة الجزائرية اليوم يرى حجم التغير الذي طال الهياكل الجامعية حيث اتسعت رقعتها و ازداد عددها و كدنا نرى لكل قرية جامعة كما تضاعف عدد الطلاب و صرنا نضرب المثل عن أنفسنا بهذا التطور غير المسبوق في عدد الرقاب التي تملأ الساحات الجامعية صانعة بذلك ديكورا جميلا نادرا ، إنها لعبة الكم و الكيف التي يتقنها مسؤولوا الجامعة، لعبة التفاخر بالكم و العدد من أجل التغطية على رداءة الكيف و هشاشته . مما تغير أيضا توفر الجامعة على عدد لا يستهان به من المنظمات الطلابية و الجمعيات الثقافية و الرياضية مما يوحي بأن مجتمع الجامعة مؤطر من خلال ممثلي الطلبة و الأساتذة الذين يملكون سندا قانونيا توفره لهم هذه المنظمات و الجمعيات و هو الأمر الذي يساعد على تحقيق وطنية جامعية من خلال التفاعل البناء الذي تضمنه النشاطات الثقافية و الرياضية وحتى الاحتجاجات الرامية إلى الحفاظ على حق الطالب و الأستاذ ، لكن هذا الأمر – للأسف – مازال مؤجلا إلى زمن تنجلي فيه رواسب القبلية الموروثة عن جامعة الثمانينات و عقلية المصلحة الشخصية التي ازدادت ترسخا في وعي مجتمع الجامعة ، فعن أي وطنية نتحدث و واقع المنظمات الطلابية ينبئنا يوما بعد يوم أنها تحولت إلى هيئات للبزنسة و الربح السريع ، طلاب لا تتوفر فيهم شروط القيادة و لا مؤهلات الثقافة قابعون على رأس منظمات و جمعيات الطلبة سنين عديدة مكونين دوائر مغلقة تحتلها زمر معينة ، ثم عن أي وطنية نتحدث و بناء كثير من منظمات الطلبة و جمعياتهم هو بناء جغرافي حتى لا نقول أنه بناء عرقي ، فكثير من الطلبة الذين يلجون الجامعة لأول مرة يجدون أمامهم هذه المنظمات و الجمعيات قوالب جاهزة تترصدهم آملة في ضمهم إلى صفوفها من أجل تقوية الساعد و زيادة النفوذ ، مستخدمة في ذلك العلاقات الشخصية و الانتماء الجهوي لمنطقة من المناطق ، و هكذا نكون أمام منظمات وجمعيات ذات طابع جهوي ، و بتفكير و ثقافة الجهة التي ينتمي إليها منتسبوهذه المنظمات والجمعيات ، فماذا ننتظر من هذا ؟ هل ننتظر تفاعلا بناء يثري الثقافة و يعزز الوطنية لدى طلبتنا ، إطارات الغد ؟ كلا إن الأمر في غاية الخطورة ، إن أخطر حرب هي حرب الكل ضد الكل ، حرب الثقافات الجهوية الممتزجة بأيديولوجيات مبرمجة ، و نزعات سياسية مغلفة، فهل بقي ثمة حديث عن وطنية الجامعة ؟!
ثم انظر في الجانب النقابي الاحتجاجي لعمل منظمات الطلبة هل تجد لها سعيا في مجال الثقافة و الأخلاق مثلا ؟ لا أحد ينكر التدهور الحاصل في هذين المستويين ، لكن تركيز الاحتجاجات ينصب فقط على الجانب الاجتماعي ( الإيواء و النقل و المنحة ) لأنه الجانب الأكثر استقطابا لجموع الطلبة حيث تعمل الزمر النافذة في هذه المنظمات على استغلالهم لأغراض سياسية و أيديولوجية و منفعية .
إننا اليوم كما بالأمس في حاجة ماسة إلى استراتيجية جامعية تضع وطنية الجامعة في مقدمة اهتماماتها قبل أي تدبير آخر ، فلا أكاديمية و لا علمية بدون وطنية ، يشهد على هذا سيطرة بعض الزمر على كثير من جامعاتنا و مراكزنا الجامعية و تسييرها لمسابقات التوظيف والماجستير بكيفية توافق مزاجها و هواها ، و بالقدر الذي يسمح لها بالمحافظة على الوضع القائم من خلال ضمان استبعاد عناصر لا تكون في متناولها و يمكن لها أن تشكل تهديدا لاستمرار مصالحها .
إنها ذهنية المصلحة التي تلغي الوطن هذه التي تشكل مزاجنا الثقافي العام ، فكم هي حمقاء هذه الذهنية ، كم هم حمقى أولئك الذين ينتجون باستمرار أسباب تخلف الجامعة و المجتمع ، لأن التخلف خطر كاسح يهدد الجميع ، فيا له من وضع جامعي لم يعرف جوهره التغيير نحو الأفضل بينما تغير شكل الجامعة ليعلن عن نفسه حجة لمن يصطادون في الماء العكر .
نشر المقال بالملحق الثقافي لجريدة الجزائر نيوز يوم30/06/2009 -عدد الملحق- 179 وهو متوفر على الرابط:http://djazairnews.info/index.php?option=com_content&view=article&id=482:2009-06-29-17-11-36&catid=37:2009-03-26-18-28-26&Itemid=56

قولبة القيم وفق التغيرات الاجتماعية

سفيان ميمون
نعرف جميعا أن القيم تنقسم بدءا إلى قسمين متقابلين : صالحة وطالحة ، حسنة وقبيحة ، مقبولة ومنبوذة ، ….لكن الحكم عليها يستند دائما إلى أساس ، فما هو هذا الأساس ؟ وهل نحن البشر شركاء فيه ؟ .

إن الأسس التي تستند إليها القيم على اختلافها كثيرة فالمجتمع أساس ، والدين أساس ، وثقافة الطائفة أو العشيرة كذلك ، ولكن المرء الذي ينتمي إلى مجتمع ويدين بدين وينسب إلى طائفة أو عشيرة يحاول دائما أن يوفق بين هذه العوامل جميعها بأن يجد مقاربة صائبة بين قيم كل واحدة من العوامل، فمحاولة التوفيق بين مختلف العوامل وحدها التي تفرز لنا القيم المعيارية التي تضحي الحكم الأساس لكل سلوكاتنا وتصرفاتنا ، ناهيك عن كيفية التفكير و ضبط المنهج القويم لممارسة هذا التفكير.
و ثمة نظرة أخرى ترى أن القيم التي تفرزها مختلف العوامل الموضوعية من اجتماع و ثقافة و دين و عادات ….. لا بد أن تخضع لعملية نقذ دائم ، لإعادة تقييم القيم و الأساس هنا ليس المجتمع و لا العادات و لا حتى الدين ، و لكن العقل الذي يدخل مزاحما هذه العوامل كلها فيمنح السلطة عليها و يصبح حاكما عليها دون أن تمسك قبضتها عليه .
هكذا نجد أنفسنا أمام معيارين للقيم ، معيار موضوعي يمثله المجتمع و الثقافة و الدين …. ، و معيار ذاتي هو العقل ، لكن الانسياق خلف أحد المعيارين فحسب إنما هو تطرف بعينه كتطرف الممجدين للعقل و خصومهم من منكري فضل هذا الأخير في علم الكلام ، أو كتطرف القائلين بإبعاد الدين شريعة و منهاجا و الاحتكام إلى العقل و مناوئيهم من السلفيين المتشددين اليوم ، و هنا يتراءى لنا معيار ثالث بين الذات و الموضوع ، معيار مؤلف من نور العقل كذات و حكمة الدين و هدي المجتمع و الثقافة و العادات كموضوع ، فلا يمكن البتة لرأي راجح أن تقوم له قائمة و هو مؤسس على العقل وحده أو الدين وحده أو ما جرى عليه العرف و التقليد ، لقد رأينا مؤخرا تغييبا للدين كمعيار خلال اللغط الذي دار حول مسألة انتشار الدعارة في الجزائر حينما حاول بعض السادة معالجة الظاهرة قاصدين تحكيم العقل الذي هداهم إلى ضرورة تقنين الظاهرة بفتح بيوت خاصة ترعاها الدولة ، و حجتهم في ذلك هي إبعاد الظاهرة من الوسط الاجتماعي لكن سعيهم هذا إنما هو تأصيل للظاهرة في عمق المجتمع من خلال تشكيل مخيال عام يتعاطى معها في جانبها القانوني و ليس الديني ، و هو بهذا إبعاد لحكمة الدين كمصدر أساس لقياس قيمة الحكم أو الفعل أو الاتجاه ، ليس هذا فحسب بل إن هذا الرأي الذي يستند إلى العقل كمعيار يفقد قيمته بإخضاعه لهذا المعيار ذاته : معيار العقل ، ذلك أن ظاهرة الدعارة لا يمكن حصرها في عدد من المواخير ، فهذه المواخير منتشرة في المجتمع بأسماء شتى ، فنادق ، قاعات عائلية ، ملاهي ………، ورغم هذا نجد الظاهرة منتشرة في الجامعات والحدائق والشوارع وحيثما وليت وجهك فهي أمامك ، فالحال لن تتغير إذا بتقنين بيوت الدعارة أو عدم تقنينها طالما هي موجودة ، ما يهمنا هنا في هذه الظاهرة وفي غيرها هو أساس الحكم وكيفية بنائه انطلاقا من مراعاة جميع مصادر القيم الذاتية منها والموضوعية ، إننا بحاجة إلى إعادة تقييم القيم وفق جميع المصادر التي يمكننا من خلال التوليف بينها أن نصل لانتاج وإعادة انتاج قيم اجتماعية تعبر عنا وعن العصر الذي نعيش فيه، دون الاتكاء على مصدر واحد يكون عاجزا لوحده في ظل المجتمعات الحديثة شديدة التعقيد التي تستدعي المركب والمعقد والمختلف والمؤتلف وتنفي الأحادي والمنغلق .
نشر المقال بالملحق الثقافي لجريدة الجزائر نيوز يوم 21/07/2009 -عدد الملحق- 182 وهو متوفر على الرابط: http://djazairnews.info/index.php?option=com_content&view=article&id=1282:2009-07-20-15-42-01&catid=37:2009-03-26-18-28-26&Itemid=56

الاندماج و السلطة

سفيان ميمون

يمكن النظر إلى الاندماج من زاويتين اثنتين زاوية المجتمع وزاوية الثقافة فالاندماج في الحالة الأولى يتعلق بعملية التفاعل بين الجماعات والأفراد في مجالات معينة ، وقد يتصل بالقدرة على التكيف في نطاق محدد بينما الاندماج في الحالة الثانية أمر معقد لأنه يتعلق بالقيم واتصالها بالجماعة ،وثبات هذه القيم ككتلة معنوية معبرة عن روح الجماعة وشخصيتها فهي بهذا تشكل هويتها التي تعرف بها مقابل هويات أخرى تشكلها قيم أخرى مغايرة ، على أن اختلاف هذه القيم التي تصنع الهويات المختلفة له مصادره الاجتماعية والتاريخية والثقافية والدينية......،هنا أجدني أرجع إلى الخلف إلى الأسباب ذاتها التي تجعلنا نطرح قضية الاندماج من منطلق الاختلاف الماثل أمامنا لدى الجماعات الإنسانية ، ولكنه أمر مهم للفت الانتباه إلى ضرورة التفريق بين " الإدماج "و "الاندماج" فنتحدث عن الادماج إذا كان لإحدى الجماعات الداعية إلى الاندماج اتصال بنوع محدد من السلطة كأن تستند إلى سلطة القانون ، أو سلطة الكثرة "كثرة أفرادها" أو سلطة الجغرافيا ...، كما نتحدث عن الاندماج في حالة اتصاله بهذه السلطة وفي حالة انفصاله عنها كذلك لأن الاندماج نوعان : اندماج بمحض الاختيار حيث تكون للذات سلطة على ذاتها وتمتلك موازاة مع ذلك الوعي الكافي الذي يمكنها من تحديد وبناء اختيارها ، واندماج قسري تترك خلاله الذات السلطة للآخر الذي يعمل من منطلق هذه السلطة على محاولة إدماج الآخرين في منظومة قيمه وأفكاره .
وهنا نجد أنفسنا إزاء نوع من التنازع السلطوي كلما طرحنا قضية الاندماج بين الداعين إليه والمدعوين له، فكلما زادت سلطة الداعي إلى الاندماج على جماعة بشرية يريد لها أن تندمج في بوتقة قيمية معينة ، وأن تألف وسطا اجتماعيا محددا كلما تضاءلت سلطة هذه الجماعة على ذاتها وفقدت القدرة على اختيار طرق ووسائل الاندماج الفعالة ، بل وربما تولد لديها سلوك انتكاسي تقوقعي سرعان ما يركن إلى الذات لا ينشد غيرها ، وهو سلوك يبدو إيجابيا حينما يطرح في سياق عملية التسلط الثقافي والقيمي التي تنتج عن دعوة القوي لاندماج ثقافي غير متكافئ القوى ، ولكنه سلوك سلبي بالمعنى العام لأنه لا يتيح للذات أن تحقق ذاتها من خلال انفتاح ثقافي يسمح لها بتجديد أطرها واكتساب الجديد الذي يسمح لها بالمواجهة الدائمة من أجل البقاء، فالانفتاح الثقافي لا يمكن له أن يتهيأ لجماعة من الجماعات ما لم يكن مقترنا بسلطة على الذات ، كما لا يصبح ذا معنى إذا سعى الآخر إلى استعمال ضروب السلطة المختلفة من أجل التطويع و الهيمنة ، و هنا نجد الانفتاح الثقافي الفعلي هو ذلك الذي يستند إلى نوع من التكافؤ أو التقارب السلطوي الذي يعطي لعملية المثاقفة معناها الأصيل الذي يخلو من كل هيمنة فالتثاقف السيد الذي تمتلك خلاله الذات سلطة على ذاتها وحده الذي يعطي للاندماج معناه الحقيقي ، كما أنه يعمل على تجنب مساوئ العولمة في مجال الثقافة .
إن كثيرا من صور عدم الاندماج و الذي يرتقي إلى درجة التنافر أحيانا تصنعها نظرة خائفة متحفظة حيال الآخر كما تصنعها أيضا نظرة متسلطة تنشد الاندماج لكن على مقاسها الخاص، خذ لذلك مثلا حالة المسلمين في بعض بلاد أوروبا إذ يتم التعامل مع الثقافة الإسلامية بشيء من الخوف الذي يولد نوعا من السلوك المتعالي المتسلط كمحاولة عملية لإبعاد الخوف و رميه بعيدا من خلال السعي لفرض نمط قيمي محدد استنادا إلى ما توفر من مختلف أنواع السلطة ، و في الوقت ذاته نجد كثيرا من المسلمين يتقوقعون على أنفسهم في شكل من أشكال الخوف على ثقافتهم على اعتبار أنهم يفتقدون لسلطة التوسع الثقافي و شغل حيز هام في الحقل الثقافي العام ، مكتفين بسلطة رفض الآخر الذي ينشد الهيمنة .
تبرز في أوربا بين الحين و الآخر أصوات تدعو إلى اندماج حقيقي مؤسس على موضوعية في الطرح و عقلانية في الفكر لكن هذه الأصوات سرعان ما تجابه من قبل دعاة الاندماج المفصل على المقاس الذين لا يجدون له من مرادفات سوى الاحتواء و الاستيعاب ، و لا أدل على ذلك من دعوة "روان وليامز" رئيس أساقفة كانتر بري عام 2008 إلى تطبيق بعض جوانب الشريعة الإسلامية في بريطانيا خلال حوار أجراه مع هيئة الإذاعة البريطانية معتبرا أن ذلك أمرا لا يمكن تجنبه لأنه يساعد على بلوغ انسجام اجتماعي ، لكن هذه الدعوة سرعان ما جوبهت بالرفض لدى الكثيرين و على رأسهم "فولف جانج هوبر" أسقف الكنيسة الانجيلية الألمانية الذي اعتبر في لقاء مع " دوتشه فيله "الألمانية أن تطبيق نظامين قانونين يتعارض مع هدف الاندماج في المجتمع مبديا تخوفه من تشكل مجتمعات موازية في ألمانيا .
ربما كان هاجس المجتمعات الموازية التي تتشكل في ألمانيا و في غيرها من دول أوربا هو الدافع الفعلي إلى الاهتمام بقضية الاندماج من مبدأ الاحتواء و الإسراع في تجريد هذه الجماعات من سلطة القوة التي يمكن لها أن تنمو بنمو هذه الجماعات ذاتها ، و ذلك من خلال قوة السلطة التي تتمتع بها داخل بلدانها ، و يمكن هنا أن ننظر إلى الإجراء الذي أقدمت عليه فرنسا خلال الأعوام الماضية بمنع الحجاب في المؤسسات الرسمية و سعيها لمنع البرقع خلال الأسابيع الأخيرة ، فهي تعرف ما يمثله الحجاب كرمز قيمي ديني و ثقافي ، يمتلك سلطة رمزية من شأنها أن تزيد من مكانة الإسلام و قوته في المجتمع الفرنسي .
الاندماج بين جماعات مختلفة ثقافيا أو بين جماعتين مختلفتين على الأقل تعترضه عوائق كثيرة تتصل بالسلطة والخوف كليهما إذ نجد الطرف الداعي إلى الاندماج وهو صاحب سلطة ثقافية ورمزية يرفق دعوته هذه بنوع من التحفظ كمؤشر واضح على الخوف الذي يعتريه حيال نوع محدد من القيم التي يمكنها أن تحتل حيزا جغرافيا وبشريا معتبرا ، كما نجد من أهم عوائق الاندماج أيضا خوف الطرف المدعو لهذا الاندماج على ثقافته و قيمه خاصة تلك التي تتصل بالمقدس ، هذا الخوف المتبادل هو الذي يضع العوائق أمام اندماج ثقافي فعال يكون فيه لكل جماعة بشرية السلطة الكاملة في قبول ورفض العناصر الثقافية الوافدة عليها وفتح نوافذها أمام ثقافة الجماعات الأخرى وفقا لهذه السلطة أيضا، لكننا إذا أردنا تجاوز عوائق الاندماج فإنه علينا أن نقرن هذه السلطة بالوعي بدل الخوف ، أن نعي متطلبات الآخر وحاجاته إضافة إلى متطلبات وحاجات الذات، لذلك يمكن لدولة ما كألمانيا أو فرنسا مثلا أن تجعل من قوانينها التي تتصل بالمهاجرين أكثر مرونة ، كما يمكن لأي جماعة بشرية تعيش في نطاق هذه الدول التخفيف من حدة بعض الأنماط الثقافية لتكون متكيفة مع هذه القوانين ، وما لم يكن متاحا التنازل عنه يمكن التفاوض حوله وتقديم الشروحات الكافية لذلك مع توقع تفهم الآخر لتكون علاقة التفاهم هذه سبيلا من سبل الاندماج .
إن اندماجا فعليا لن يكون له كيان ما لم يكن ثمة تفاهم رمزي بين الأطراف الداعية للاندماج و الأطراف الواقعة موضوعا لهذه الدعوة حول صيغة للتقارب السلطوي تحد من استعلاء و تجبر القوي كما تحد من انكماش و تقوقع الجماعات الصغيرة الناشئة .
نشر المقال بجريدة القدس العربي اللندنية يوم18/08/2009 عدد6284 وهومتوفر على الرابط: http://www.alquds.co.uk/archives/2009/08/08-17/qmd.pdf

الثقافة الوطنية والكفاح المسلح عند فرانز فانون

سفيان ميمون
عناصر كثيرة صنعت اتجاه فرانزفانون نحو إيمانه بالكفاح ضد المستعمر و وقوفه إلى جانب الثقافة الوطنية في ظل هذا الكفاح و بعده ، و ذلك قبل أن تصنع نظرته الفلسفية لهذين العنصرين معا : الكفاح المسلح و الثقافة الوطنية ، من هذه العناصر تأثره بنظام الميز العنصري الذي وقف عليه حينما جند كعسكري في مواجهة النازية ، و وقوفه على همجية الاستعمار و عمله على إجحاف حقوق الشعوب المستعمرة حينما عمل طبيبا عسكريا في الجزائر ، و كذا الآثار التي خلفها هذا الاستعمار على نفسية هذه الشعوب و تفكيرها ، مستندا إلى تخصصه في الطب النفسي و زاده المعرفي و الفلسفي الواسع .
لقد عمل الاستعمار – و هذا شأنه – على تقويض ثقافة الشعوب المستعمرة بشتى وسائل القمع المادي و الفكري فكان للثقافة الوطنية أن انكمشت و تقوقعت على نفسها في محاولة للمحافظة على البقاء ، لكن هذا الانكماش و التقوقع لدى فانون هو سلوك إيجابي و ليس سلوكا سلبيا في ظل هذا الهجوم الاستعماري العنيف و الكاسح ، فهي لم تحاول تجديد نفسها الأمر الذي ساهم في بقائها و لو كان ذلك من خلال أنماط متحجرة غير فاعلة ، لأن ذلك يشكل حماية لها من مخاطر التثاقف غير المتجانس مع الثقافة الاستعمارية التي تتواجد في وضع أقوى يسمح لها بالهيمنة و ممارسة استيلاب ثقافي يقتل الثقافة الوطنية للشعب المستعمر و يحل محلها ثقافة المستعمر ( بالكسر) يقول فانون: " من الأخطاء الفادحة التي يصعب الدفاع عنها من جهة أخرى أن نحاول تحقيق تجديدات ثقافية ، و أن نحاول رد الاعتبار و القيمة إلى الثقافة الوطنية ، و نحن ما نزال في ظل السيطرة الاستعمارية ..."(معذبو الأرض) .
لكن فكرة الكفاح المسلح كـ" سلوك هجومي غريزي و انعكاسي " نتيجة كل أشكال الصد و التحريم ضد الثقافة الوطنية ما فتئت تنضج في صفوف الشعب ، و قد عدد فانون كثيرا من المجالات التي لوحظ فيها نمو و انبعاث لهذه الثقافة ، فالحركة الأدبية مثلا عرفت تجددا واضحا في موضوعاتها ، لقد انتقلت هذه الموضوعات من حالة موت و جمود إلى حالة حياة و تجدد بعد أن دفع القهر الاستعماري بالأدباء إلى التعبير عن وضعية المقهور و إحداث ثورة أدبية من خلال تثوير الرواية و الحكاية و الأغنية الشعبية ، هذه الأصناف الثقافية التي انحصرت بفعل الهجمة الثقافية الاستعمارية ،و لكنها عاودت الانبعاث بفعل استمرار المستعمر في عملية القهر و التي ولدت ردة فعل المقهور بأشكال و أنماط لم تكن في حسبان هذا المستعمر لأنه ترك المجال مفتوحا للأدباء ظنا منه أنه بهذا إنما يعمل على إلهاء الشعب عن الاحتجاجات و المواجهات المباشرة التي تزعجه باستمرار ، فإذا به أمام مواجهات و احتجاجات من نوع آخر ، مواجهات ثقافية مهدت بامتياز للكفاح المسلح الذي كان سببا في تقويضه والقضاء عليه .
و يثمن فانون تمسك الشعب بثقافته و رجوعه إلى ماضيه فهذا الماضي يمثل لديه عملية نفسانية عاطفية لها أن تجمع شتات الشعب فيغدو بذلك رابطة و أداة لتماسكه و تلاحمه ، غير أن هذا الماضي ليس له بأية حال من الأحوال أن يقف حاجزا أمام تنمية طاقة الشعب الثورية ، فالماضي الذي ينشده فانون هو الماضي الذي له أن يجمع قوى الشعب في نواحيها المادية و الروحية و الذي من شأنه أن يؤدي إلى التحرر من الاستعمار ، كما أن التحرر في الوقت ذاته سبب لقيام ثقافة وطنية تلم شمل الشعب و تكسبه وعيا بذاته ، فالتحرر من الاستعمار و الثقافة الوطنية يتقاسمان بهذا المعنى دور السبب و النتيجة ، يقول فانون في كتابه البشرة السوداء " أولئك الرجال و النساء الذين يقاتلون الاستعمار الفرنسي في الجزائر بقبضات أيديهم العزلاء إنما يقاتلون جميعا في سبيل الثقافة الوطنية الجزائرية " .
وهنا تبدو العلاقة الجدلية بين الثقافة الوطنية كمجموعة من الخصائص التي يتبناها الشعب وبين النضال الذي يجب أن يولد من رحم هذه الثقافة ، فالثقافة الوطنية حسب فانون لا يمكن أن تعبر تعبيرا صادقا عن حقيقة الشعب إذا ما عدت فلكلورا فحسب ،إنما هي تلك الهبة التي يجنيها الشعب عن طريق النضال والكفاح المستمر، ويعبر فانون عن هذا في كتابه معذبو الأرض " ليست الثقافة الوطنية ذلك الفلكلور الذي حسب من ينظرون إلى الأمور نظرة مجردة أنهم يكتشفون فيه حقيقة الشعب .. إنما الثقافة الوطنية مجموعة الجهود التي يبدلها شعب من الشعوب على صعيد الفكر من أجل أن يصف وأن يبرز وأن يغني النضال الذي به يتكون الشعب ويبقى".
لقد رأى فانون أنه لا الاندماج في ثقافة المستعمر الذي ميز نخبنا و لا النزعة السلفية التي تقوقعت على الثقافة التقليدية استطاعت أن تؤسس لثقافة وطنية جديدة ، و لكن الذي بإمكانه ذلك هو الكفاح المسلح دون سواه ، قد يحيل هذا المعنى إلى أن الثقافة الوطنية مؤجلة إلى ما بعد الكفاح الذي يكون نجاحه مطية للشروع في البناء الثقافي ، لكن فانون لا يقيم فصلا مرحليا بين الكفاح المسلح و الثقافة الوطنية فهما مندمجان لديه حيث ينشأ الكفاح في خضم الثقافة كما رأينا ذلك مع تثوير الأدب لأجل تعبئة الجماهير ، كما يؤسس الكفاح ذاته ثقافة وطنية خاصة تستمد من أهداف هذا الكفاح و مبادئه .
و يمزج فانون بين الثقافة و الوعي الوطني فبينما تعبر الثقافة عن الوعي الوطني يكون الوعي الوطني هو الثقافة ذاتها في شكل أسمى و أنضج ، و هو لا يرمي إلى أن يكون هذا المزج هدفا مقصودا لذاته و لكنه يؤكد على قيمة الوعي الوطني الذي يعد أساسا للوعي العالمي ، فتشكيل القيم الوطنية النابعة من إرادة الشعب يسلم لا محالة إلى اكتشاف قيم عالمية إنسانية و ينزل الأمة منزلة مرموقة بين الأمم ، يقول فانون: "...ففي قلب الوعي القومي إنما ينهض الوعي العالمـي و يحيا ،و ليس هذا البزوغ المزدوج في آخـر الأمر إلا بؤرة كـل ثقافة " ( معذبو الأرض ) .
إن الكفاح حسب فانون لا يهدف إلى الرجوع إلى الماضي و التقوقع على قيمه القديمة و لكنه يهدف إلى إعادة تنظيم العلاقات بين البشر و إلى تجديد الأنماط و الأشكال الثقافية للشعب ، إنه يهدف إلى إزالة الذات
و إعادة تركيبها من جديد ناهيك عن سعيه لإزالة الاستعمار ، " إن التحرير لا يزيل الاستعمار فحسب ، بل يزيل المستعمر ( بالفتح ) أيضا " ( معذبو الأرض) .