السبت، 20 فبراير 2010

رأي في الهجرة " غير الشرعية "


هي ظاهرة جديرة بالاهتمام والدراسة والبحث قبل أن تكون محلا لإطلاق الأحكام هكذا جزافا ، وتوجيه الاتهامات للفاعلين الذين يكونون تلك الظاهرة ، إنها ببساطة ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي أسالت الكثير من الحبر ، كما أسالت الكثير من اللعاب أيضا لدى شباب الجنوب الذين يفتقدون للمأوى والعمل ، ويستشعرون حياة الذل والملل ، حتى سيطر عليهم الكسل وصارت آمالهم معلقة بقارب ينجيهم من هذه الحال دونما تفكير في بذل جهد على مستوى الفكر والبدن لإيجاد حل يرضي النفس ويعزز همتها كي تقف وتقاوم هذا الواقع المفروض.
نقرأ ونسمع ونحيا الأحكام المختلفة التي تطلق على الظاهرة فهي بدءا ظاهرة " غير شرعية " لأنها تتم خارج الإطار القانوني ، فهناك قوانين دولية تضبط عملية الهجرة وتضفي عليها صفة الشرعية ، وهي أيضا ظاهرة
" غير شرعية " لأنها تزعج البلدان التي تحتضن المهاجرين لأن أكثرهم من البطالين الذين لا عمل لهم ، والبؤساء الذين حرموا من كل شيء في بلدانهم فغامروا بأرواحهم من أجل كل شيء أو لا شيء ، فهما خياران ليس لهما ثالث اللهم إلا الموت المحقق غرقا في عر ض البحر .
وهي ظاهرة
"غير شرعية " أيضا لأنها تحرج البلدان الأصلية للمهاجرين أمام الدول المهاجر إليها بحكم العلاقات والقوانين الدولية التي تجمع هذه الدول ، كما أنها أيضا ظاهرة "غير شرعية" لأنها تحدث نزيفا في القوى العاملة والكفاءات والعقول التي تهاجر فتترك فراغا رهيبا في مجتمعاتها يعسر على هذه المجتمعات سده .
هذا هو الخطاب الذي يلازم ذكر المهاجرين الذين يمتطون القوارب خلسة من شواطئ الجنوب باتجاه شواطئ الشمال حيث يكونون ظاهرة " سلبية وغير شرعية " وهي كذلك بحكم منطقية التبريرات التي يضمها هذا الخطاب ، وهي منطقية تنبني على نظرة عامة لواقع وحال المجتمع في علاقته مع ذاته من خلال تقدير مصالحه الخاصة حيال هذه الظاهرة حيث يشكل المهاجرون – كما ذكرنا – نزيفا حادا في البنية الاجتماعية كان على المجتمع أن يؤممهم لنفسه مستغلا كفاءاتهم وقدراتهم البدنية والعقلية ، كما تنبني أيضا على نظرة عامة لواقع وحال المجتمع والدولة في علاقتهما بالدول والمجتمعات الأخرى حيث تؤسس الهجرة " غير الشرعية " لعلاقات دولية جديدة على المستوى السياسي والاجتماعي معا ، فبعد أن تجد الدول الأصلية للمهاجرين نفسها في موقع حرج تزداد المكانة الاجتماعية لمجتمعات المهاجرين الأصلية تدهورا وانحطاطا و هو ما يجلب لها عدم الاحترام الدولي وتنامي الاعتقاد الدولي بدرجات الظلم والفساد الذي تتعامل بها هذه المجتمعات والدول مع مواطنيها، والاقتناع بغياب الديمقراطية وقمع الفرد في جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل هذه المجتمعات ، وكما نعلم فإن للمجتمعات مكانتها الاجتماعية التي تتحقق من خلال ما تقوم به من أدوار حيال مواطنيها قبل كل شيء تماما كما هي حال الفرد الذي تتحدد مكانته الاجتماعية من خلال ما يؤديه من أدوار إزاء محيطه العام .
يتضح لنا إذا أن الخطاب الذي يبرر عدم شرعية هذا النوع من الهجرة صحيح في جوهره حينما يتصل بالمنطق فكل التبريرات المقدمة لتدنيس العملية ونبذها مؤسسة منطقيا ، ولكن هل يؤسس الواقع هذه التبريرات ويقبلها ؟ إذ أن للواقع أيضا منطقه الذي يعكس مجموعة التناقضات الاجتماعية التي تلقي بضلالها على أنماط السلوك والتفكير المختلفة .
يقول الواقع أن مجتمعات الجنوب غير قادرة على تأمين حياة كريمة محترمة لمواطنيها فما بالك باستخدامهم واستغلالهم في تنمية وتطوير بناها المختلفة ، فالفقر والبطالة و العنوسة أمراض اجتماعية متفشية في هذه البلدان ، وهي أمراض تهدد البناء الاجتماعي كله وتزيد من هشاشته و اختلاله ، لذلك نجد الكثير من المتعلمين حينما تثار قضية الهجرة غير الشرعية ينتجون نوعا من الخطاب يخالف الخطاب السائد حيث " يشر عنون " هذا الضرب من الهجرة من خلال منطق ومبدأ المصلحة والمنفعة- وليس المصلحة الشخصية الخاصة بالأفراد فحسب- أي الذين تتحقق لهم بعض الامتيازات والأماني خلال قيامهم بعملية الهجرة ، ولكن المصلحة العامة التي تتصل بالمجتمع كله ، ذلك أن هجرة الأفراد العاطلين عن العمل والفقراء البائسين يقلل من نسب وقوع انزلا قات اجتماعية وثورات داخلية ، حيث يمثل هذا النوع من الهجرة حلا بديلا ولو على مستوى التصور والتخيل العام في غياب حلول جوهرية للمشاكل والأزمات الاجتماعية ، فالهجرة "غير الشرعية " والتي تصبح بهذا المنطق الذي يفرزه وينتجه الواقع هجرة شرعية بامتياز تمثل أملا للأفراد في تجاوز مشاكلهم ، وإن كان هذا الأمل لا يعدو أن يكون وهما لدى الأغلبية تستغله الأنظمة العاجزة عن معالجة الأوضاع والأنظمة التي يريقها تدهور الأوضاع من أجل تمديد حكمها والحفاظ على بقائها ، فهذا الأمل-الوهم- إذا يمثل حاجزا منيعا أمام الأفراد لئلا يثوروا على الوضع ويعملوا على إزعاج القائمين على زمامهم المكلفين بتوفير حاجياتهم الحياتية ، فالظاهرة بهذا المعنى تأخذ طابعا شرعيا بالمعنى المجتمعي المحافظ حيث يعمل الواقع على شرعنتها مع الحفاظ على تفاصيله وحماية بناه المختلفة من أي اختلال تحدثه ثورة عارمة يقود إليها ضنك العيش والعراء والفراغ والبطالة.
يسلمنا هذا إلى أن الهجرة "غير الشرعية " وثباتها كأمل للأفراد البائسين يعمل على خدمة طبقة فقط وهي الطبقة التي بيدها مقاليد التنفيذ من خلال الحفاظ على الوضع القائم كما هو دون تغيير، وليس خدمة المجتمع من خلال تفعيل آليات التطور والتقدم الاجتماعي ، ولكن إدراك حقيقة التركيب المجتمعي لكثير من مجتمعات الجنوب والذي يؤكد على تمسك الطبقات الحاكمة بكراسي الحكم ولو على حساب مصالح شعوبها التي تبدأ بتأمين حياتهم المعيشية بتوفير ضروريات الحياة المختلفة وربما كان ذلك- كما ذكرنا- إستراتيجية دقيقة ومحكمة من أجل عملية الاستتباع البشري الذي تمارسه هذه الطبقات يبعد الأمل في تحسن الوضعية المعيشية بالشكل المطلوب والكافي لعملية التقدم الاجتماعي الذي يجر إلى حالة من الديمقراطية التي لا تتوافق مع مصالح هذه الطبقات ، فتصبح الهجرة "غير الشرعية " بهذا المنطق عملية شرعية باعتبارها أداة لانعتاق الأفراد من الناحية المادية حيث تفتح لهم أبواب الرزق من خلال السعي في الأرض رغم المصاعب والمتاعب الكبيرة التي يلاقيها المهاجرون في البلاد التي يهاجرون إليها ، وباعتبارها كذلك أداة لانعتاق الأفراد من الناحية الفكرية حيث يجد الكثير منهم خاصة- المتعلمين- الجو الملائم لتفجير طاقاتهم الفكرية والعلمية كما يجدون مساحات هامة للتعبير عن آرائهم خاصة إذا استطاعوا تسوية ملفاتهم ،وهي امتيازات يعدمونها في بلدانهم الأصلية .
ولما كانت هذه هي حال المجتمعات التي يعيشون فيها وكانت تلك هي حال المجتمعات التي يأملون العيش فيها فإن اعتبار الاتجاه نحو هذه الظاهرة هو اتجاه فيه شيء من الشرعية المنطقية لأن اتجاه الأفراد كان نحو العيش وليس الموت وكان نحو التقدم وليس التخلف ونحو تحقيق طموحات مشروعة مقابل طمس هذه الطموحات ودفنها في بلدانهم الأصلية ، فالضغط الذي يمارسه الواقع المتقدم على الأفراد من خلال آليات اجتماعية كثيرة كالإعلام والتكنولوجيا المتقدمة وغيرهما يجعل الأفراد يندفعون نحو هذا الواقع من أجل عيشه "هناك " لأن عيش واقع متقدم بمثل ذلك الواقع الذي يمارس عليهم إغراءه كل يوم وحين من خلال مختلف الآليات والوسائل غير متاح " هنا " أي في مجتمعهم الذي يعيشون فيه ، ومن خلال هذا فقط " تتشرعن " اتجاهات الأفراد للعيش في مجتمع متقدم ونبذ ورفض مجتمع متخلف وإن اقتضى الأمر الهروب بجلدتهم والفرار من الواقع الذي يعيشونه مكبلين بسلاسله وأغلاله ।