الأحد، 27 يونيو 2021

جيجل " المحافظة" *

سفيان ميمون

" تائهة مدينتكم

وعاجزة/ عن/ الإنجاب

أعرفها /

فكل / رجالها/ خصيان

ألفوا / التسكع/ قرب أقدام الموائد

واستكانوا......."

القصيدة كتبها محي الدين اللاذقاني قبل أربعين سنة للأستاذ عبد العزيز بوباكير الذي كان يرافقه في شوارع جيجل ، يستذكر بوباكير هذه الرفقة مع الأستاذ محي الدين الذي أصبح فقط يسمع عنه ويقرأ له ويشاهده في شاشات التلفاز بعد أن استقر به المقام في العاصمة البريطانية لندن.

يستذكر الأستاذ بوباكير هذه القصيدة للأستاذ محي الدين اللاذقاني ضمن مقالة أفردها له في كتاب "الجزائر في عيون الآخر" في جزئه الأول بعنوان " دفء الغربة وصقيع الوطن" مرجحا أن يكون الوصف خاصا بمدينة جيجل – مدينة بوباكير – أو بلدة اللاذقاني – سرمدا - ، فقد غفل بوباكير أن يسأل اللاذقاني أي مدينة يقصد.

مهما كان قصد اللاذقاني فإن الأوصاف التي ضمنها في قصيدته تنطبق على جيجل وزيادة ، وكل كلمة فيها حمالة لمعاني تشمل السياسة والأخلاق والاجتماع ، فليست العقيم من لم تنجب ولكن العقيم التي أنجبت لكنها لم تنجب فعلا، لم تنجب رجالا ، لم تنجب أهل خلق وشهامة ...، ربما هذا أدنى ما يمكن فهمه من عبارة " المدينة التي لم تنجب" .

فهم يدحضه التاريخ نعم ، لأن جيجل هي بلد الرجال الذين شكلوا جزءا مهما من تاريخ الجزائر المعاصر ، وتضحضه الجغرافيا أيضا ، ففي جبال جيجل انكسرت شوكة إحدى أعتى قوات العالم المعاصر، في غابات الشمال القسنطيني بالذات.

لكن الوصف جدير بالاحترام عند النظر إلى واقع جيجل ، إلى وعي أهلها ، إلى علاقاتهم ببعضهم وبغيرهم ، إلى علاقتهم بالتقاليد أيضا ، إلى وهم المحافظة بشكل خاص.

وهم المحافظة مفهوم آخر يضاف إلى جملة المفاهيم التي يتم ركنها بمستودعات الثقافة والوعي في جيجل ، لقد دأبت جيجل على المحافظة على " مفهوم المحافظة" فعلا ، أما المحافظة من حيث هي فعل وعمل وممارسة فلا أعتقد أن لهذا المفهوم كيانا اليوم مع جملة التغيرات التي ثبتت ذاتها كثابت أساسي ومتميز ، تغيرات طالت الأخلاق أولا ومنظومة القيم على  الجملة رغم الإصرار على " صفة المحافظة " ، ربما في هذا شيء من الحنين بلغة الأدب ، أو هو نوع من المقاومة الثقافية بلغة الأنثروبولوجيا ، لكن الشيء المؤكد أن التغير قد حصل لكن للأسف الشديد كان هذا التغير نحو الأسفل في كثير من جوانب الحياة .

لقد كان احترام الصغير للكبير مثلا أو تقدير الطالب للأستاذ أو خفض الصوت عند النطق بكلام بذيء سمة من سمات " المحافظة " ، لا شيء من هذا أصبح له معنى في الواقع ، فقد تساوى الصغير والكبير والطالب والأستاذ ولم  يعد للفضاءات العامة حرمتها ، بل للفضاءات ذات " الحرمة " مثل المدرسة والجامعة والمسجد .

يعارض مفهوم " المحافظة " مفهوم " الانفتاح" بالمعنى الثقافي العام ، فإذا حدث انفتاح على مستوى القيم والعادات تلاشت بالضرورة صفة المحافظة لأن القيم والعادات الجديدة ستحل بالضرورة على القيم والعادات التي دأبنا على المحافظة عليها فتحدث فيها تغييرا إما بإزالتها أو تعديلها، وهذا قانون أساسي من قوانين التثاقف ، غير أن المحافظة في علاقتها بالانفتاح في مخيالنا العام تختلف قليلا عن هذا المفهوم " العالم" ، إنها شيء متعلق بالإنسان ضرورة ، بقيمه العليا التي يفترض ألا تزعزعها القيم "غير الإنسانية " التي لها علاقة بالمادة والغريزة وغيرها ، على أن يكون الانفتاح على ما دون ذلك من قيم وعادات.

بهذا يفترض ألا نجد أي تعارض بين " المحافظة " و " الانفتاح" فلكل مجاله الذي يتحرك فيه ، لكن الأمور انقلبت رأسا على عقب ، فحدث انفتاح على ما كان يفترض المحافظة عليه والمحافظة على ما كان يفترض أن يطاله الانفتاح .

حدث انفتاح على القيم المادية التي ساهمت في قتل الإنسان بما تعنيه هذه الكلمة من معنى ، وغزت قيم المدينة " المعاصرة" بمشكلاتها وهمومها حياة الريف ، فلم نعد نفرق بين بين الريف والمدينة ، وهذه خاصية عامة لاتختص بها جيجل وحدها ولكنها شاملة للمجتمع الجزائري كله ، بل وللمجتمعات الشرقية كافة ، ولكننا مازلنا مع جيجل كنموذج للمحافظة على المحافظة ، أقصد المحافظة على اسم " محافظة " والإصرار عليه فحسب.

انفتحت جيجل بمدنها الملحقة بها على الكثير من الآفات تتقدمها آفة المخدرات عند الشباب والاعتداءات الجسدية والجنسية ومختلف أصناف الانحلال الخلقي والخيانات الزوجية وغيرها ، بما لم يبق أي وجه في المدينة للمحافظة المزعومة رغم ما يشاع عن قلة حدة هذه الآفات في جيجل مقارنة بغيرها من المدن في المجتمع الجزائري.

لنعد إلى المحافظة ..، فقد حافظت جيجل على بعض الصفات ولم تقدر آليات العولمة المختلفة على زعزعتها ، ولعل أهم هذه الصفات على الإطلاق هي النزعة العروشية وما ينتج عنها من إقصاء وتهميش وموالاة وتموقع واستعلاء وازدراء ...، هذه الصفات التي يتم تفعيلها ليس فقط في الحياة السياسية وفي أوقات الحملات الانتخابية ولكن في الحياة الاجتماعية والثقافية ، وفي علاقات الناس بعضهم ببعض ، وللأمانة فقط ورغم بعض الصفات الذميمة التي ينتجها العرش مثل التعالي والازدراء إلا أن ذلك لم يؤثر على عملية التمازج الاجتماعي بين هذه الأعراش التي تشكل قبيلة واحدة مثلما نجد ذلك في بعض مناطق الصحراء حيث تمنع بعض الأعراش تزويج بناتها لأبناء عرش آخر يرونهم دونهم.

للأمانة أيضا ونتيجة الوعي الذي اكتسبته الأجيال الجديدة فقد حدث بعض التغير الطفيف – وأركز على كلمة طفيف- حيال الموقف من العرش والعلاقات الاجتماعية بين هذه الأعراش، تغير طفيف وغير كاف بالنظر إلى ما نلاحظه من تحكم هذه النزعة العروشية في الكثير من سلوكياتنا السياسية والاجتماعية .

لتبقى جيجل محافظة على بعض السلوكيات التي تبقيها مدينة بائسة وخاملة وغير مستعدة تماما للاندفاع نحو الأمام ، ولتبقى محافظة وفقط على اسم " محافظة " وإن تغير الجوهر وتبدلت الأحوال.

*جيجل مدينة جزائرية توصف بالمحافظة  وهي مدينة ذات تاريخ عريق تقع جغرافيا شرق الجزائر وهي مطلة على البحر الأبيض المتوسط.

نشر في : الحوار المتمدن-العدد: 6934 - 2021 / 6 / 20 - 04:24