الاثنين، 14 ديسمبر 2009

التجليات العامة للثقافة و المثقف


سفيان ميمون
تمهيد:
العلاقة الجدلية بين الثقافة و المثقف و بين كليهما من جهة و نواحي أخرى في الحياة الإنسانية واضحة في مختلف تمظهرات الواقع المعيش في الاجتماع و السياسة و الدين و في مختلف نواحي الحياة الأخرى ، فالثقافة شاملة جميع المجالات و هي في تفاعل دائم معها تكيفها حينا و تتكيف معها أحيانا أخرى ، و الثقافة متبدلة من مجال إلى مجال بحسب قوى الجذب المتصارعة التي تفرزها من واقع مؤثر و فارض لجملة من المعطيات و الخصائص الثقافية إلى مفكرين ساعين إلى تكييف هذا الواقع وفق نظرة معينة يرونها عين الصواب .
و الثقافة و المثقف وجهان لشئ واحد حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر ذلك أن المثقف إنما يحصل ثقافة و بها يعمل و يسعى لتوجيه هذه الثقافة ذاتها أو أن يمارس عملية النقد الثقافي أو يكون رسولا ناشرا لها أو أن يتخذ منها موقفا ، فالثقافة إذا هي عملة المثقف في التعامل و التعاطي مع مختلف الظواهر في المجالات كلها ، و جملة القول أنه لا ثقافة بدون مثقف كما أنه لا مثقف بدون ثقافة فكلا الطرفين دعامة لقيام الآخر، و الحياة اليومية تدلنا على مختلف تجليات الثقافة و موقع المثقفين في ذلك على المستويين النظري و العملي ، و حسبنا في هذا العنصر أن نستقصي بعض هذه التجليات مع محاولة وصف لوضع المثقف و دوره و محاولة بيان العلاقة بين الوضع الذي يحتله و الدور الذي يجب أن يؤديه.
1- تجليات الثقافة بين الفكر والواقع :
تتجلى الثقافة في مجال الفكر كما تتجلى على مستوى الواقع أيضا فحينما ننظر إلى الواقع بمختلف جوانبه نجده منتجا هاما للثقافة فالواقع يفرز قيما يؤمن بها الأفراد و تصبح معتقدا سائدا يعاودون طرحها من جديد كثقافة و الدلائل على ذلك كثيرة على المستوى الواقعي ، فحينما تنتج السوق قيما معينة يأخذها الباعة ويتداولونها فتصبح جزءا لا يتجزأ من أذهانهم ، و مثل ذلك القيم التي تنتجها الملاعب و المقاهي والشوارع و غيرها .
و تنظيريا كانت الاشتراكية تؤمن بأن البنية التحتية تتحكم في البنية الفوقية أي أن الواقع هو الذي يصنع الأفكار التي تسود المجتمع ، ففي تقريره لهذا يوضح كارل ماكس كيف تعمل البنية التحتية ممثلة في الاقتصاد و ما يضمه من ممارسات ميدانية على خلق وعي الناس بأحوالهم في شتى المجالات فيقول في كتابه " مساهمة في نقذ الاقتصاد السياسي " : " إن نمط إنتاج الحياة المادية يكيف سيرورة الحياة الاجتماعية و السياسية و الفكرية بصفة عامة و ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم بل يحدد وجودهم الاجتماعي وعيهم "
[1] .
و الواقع أن ما جعل النظرية الماركسية تسلك هذا المنحى في تحديد أسبقية المادة على الفكر إنما هو الواقع ذاته حيث فرض هذا الواقع الذي يتسم بكدح الطبقة العاملة وعلاقات السيطرة والاستعباد التي كان يمارسها في حقهم أرباب العمل من الرأسماليين على مفكري الاشتراكية و منهم ماركس على تجاوز هذا الواقع من خلال التنظير لثورة شيوعية تطيح بالنظام الرأسمالي وتحقق العدالة الاجتماعية .
و يذكر سمير أمين أن " فلسفة القرن التاسع عشر في أوروبا... مالت إلى إنكار استقلالية المجال الأخلاقي فظهرت مبسطة تقول : إن الميول و القيم الأخلاقية إنما هي مجرد انعكاس لأوضاع و حاجات اجتماعية "
[2] فلقد فرض الواقع نفسه كمصدر أول للقيم و الأخلاق و سائر أشكال الثقافة متنكرا بذلك لمختلف التمويهات القيمية التي سادت أوروبا قبل ذلك كنتيجة لمحاولة الكنيسة و أذنابها بسط سيطرتها على المجتمعات الأوروبية باسم الدين و الأخلاق .
لا أحد إذا ينكر الواقع كمصدر للأفكار و القيم و لكن المكيف لها بشكل مباشر إنما هو المفكر والمنظر و المثقف و عليه كان الفكر أيضا مصدرا هاما للإبداع الفكري و إنتاج القيم و عليه برز من يقول بأسبقية البنية الفوقية في الإنتاج الفكري و الثقافي حيث المثقف هو صانع الوجود و المكيف له و هذا ما نحاول بيان بعض أوجهه خلال النقطة الآتية التي نحلل فيها دور المثقف .
و يكفينا هنا أن نبين علاقة الربط بين الواقع و الفكر إذ أن ثمة علاقة جدلية بينهما حيث تبرز الثقافة و تتجلى خلال هذه العلاقة فهيجل يقرر أن هناك " صيرورة للفلسفة تصير عالما ( أي أحداثا اجتماعية ) و هناك صيرورة للعالم يصير فلسفة ( أي أفكارا ) "
[3] ، إذا الواقع يفرز قيما ثقافية و يدعوا المفكر إلى التأمل فيه و الفكر يكيف الوجود و يعدله و يصنعه ، فالواقع و الفكر ليسا منفصلين كما أن اتصالهما أيضا لا يصل إلى حد المطابقة .
فالثقافة هنا بارزة في هذا الجدل القائم بين الفكر و الواقع لكنها تبقى ثقافة مشوهة و غير صادقة ما لم يتعاط الفكر مع الواقع باتخاذ أدوات خاصة تمكن من إفراز ثقافة أقرب إلى الصحة أو القبول منطقيا وهذه الأدوات لا تتجاوز عمليتين أساسيتين حسب محمد عابد الجابري هما " أولا تحليل الواقع تحليلا يهدف إلى الكشف عن بنيته ، إلى استخراج ثوابته و متغيراته و استخلاص نموذجه الصوري ، و ثانيا تحليل الصورة المرآوية
· المهشمة ، أي صورة الواقع " العامية " كما تنعكس في وعي الناس- مطلق الناس- و إعادة مفصلتها و ترتيب العلاقات بين أجزائها لاستخلاص صيغتها " العالمة " أي الصيغة التي تؤسس الوعي الطبقي الصحيح"[4].
وتتجلى الثقافة في عمليات الاستهلاك و الإنتاج اليومي لها و هي أيضا جدلية قائمة بذاتها فعمليات الإنتاج الثقافي لا تتم دون استهلاك للثقافة ، فالثقافة تتجلى في عمليات إنتاج الكتب و نشر الصحف وإذاعة الأخبار و غير ذلك حيث يتلقى الفرد هذه العملية في صورة استهلاك لمحتوياتها و مضامينها ثم يعاود إخراج هذه المحتويات بنفس الصور السابقة و لا سبيل لنا إلا أن نصف كل هذه العمليات بالثقافية ، و هي من الصور التي تتجلى فيها الثقافة ، لكن ألا تعني الثقافة في أرقى صورها الإبداع ؟ ألا يعد إنتاج ما استهلك إعادة إنتاج و دوران في حلقة مفرغة ؟
إن الإبداع هو الحلقة المفقودة لدى أمة تريد أن تنهض و كل ما يطفو على سطح الواقع اليوم إنما هو إعادة إنتاج ما ينتج من ثقافة طالما أن هذه الثقافة لم تقدر على التغيير في الواقع الثقافي إلى أحسن ، وتبقى إعادة إنتاج الثقافة هذه ثقافة في حد ذاتها و هي من الصور البارزة للثقافة في واقعنا اليوم ، يقول خليل أحمد خليل في هذا المضمار : " .... فيما المثاقفة وهم آخر ينضاف إلى أرصدة الواهمين الذين يظنون – مثلا – أنهم ينتجون ثقافة ما ، فيما هم لا يفعلون سوى استهلاك بعضها سواء من المحلي أم من الوطني ( القومي ) وصولا إلى العالمي ، و هو في أصله و واقعه محلي – وطني – معولم بوسائل الهيمنة الأخرى كالأيديولوجيات و الآلات و التقنيات أو الغزوات و الحروب ......"
[5]، و السياسة وجه آخر من الأوجه التي تتجلى فيها الثقافة فعلاقة الثقافة بالسياسة أو بالسلطة بشكل خاص بارزة في الحياة السياسية و الثقافية على السواء حيث يسعى المثقف لاستغلال مركزه لتحصيل امتيازات معينة و يقابل ذلك استغلال السياسي للمثقف لتمرير سياسته و شرعنتها، و هنا تقع الثقافة ضحية هذه العلاقة إذ أن ثقافة أخرى فاسدة تحل محلها فتشغل هذه الثقافة الفاسدة مكان الثقافة التي كان من السليم أن تكون فتنتشر فيتلقاها الجمهور و تسري نتائجها الفاسدة مؤذنة بركود ثقافي يصنعه تماهي المثقف و تبريره لمشاريع السياسي و إن كانت فاسدة ، و هذه هي الصورة التي تبدو عليها الأوضاع الثقافية في غالب أرجاء البلدان المتخلفة ، و تتجلى الثقافة اليوم أيضا في علاقتها بالدين و كيفيات تعاطيها مع العولمة و الغزو الثقافي وموقعها في مختلف الإشكاليات الثقافية على غرار الأصالة و المعاصرة و قضية الهوية .
و تتجلى الثقافة في حالة من السلبية في كثير من المواقع فحينما " يدور عالم الثقافة في فلك الأشياء ، تحتل هذه الأشياء القمة من سلم القيم و تتحول الأحكام النوعية خلسة إلى أحكام كمية من غير أن يشك صاحب هذه الأحكام في انزلاقه نحو " الشيئية " أي نحو تقييم كل الأمور بمقياس الأشياء "
[6] و نحن نرى اليوم أن ثقافة المجتمع مالت إلى تقديس الأشياء و إعطاء الأهمية أكثر للمادة على حساب الروح أو الفكرة.
و من مظاهر السلبية الثقافية "الجمود و التقليدية على الصعيدين الفكري و الاجتماعي و هجوم قيم الريف و البادية على المدينة ،و غياب العقلنة و العلمية ،و التخلف الاقتصادي ،و التعليم التقني ..."
[7]و هي أمراض ثقافية سادت مجتمعاتنا و أصبحت ملازمة له في غياب رغبة حقيقية لمحاولة تجاوز هذه الأمراض .
و يعزي الدكتور سليمان العسكري هذا الجمود و التخلف الذي يعرفه الواقع الثقافي في الوطن العربي بشكل خاص إلى جملة من الأسباب أهمها:"
[8]"
1- غياب الديمقراطية في كافة المجالات السياسية و الثقافية و الاجتماعية .
2- ضعف الترجمة .
3-عدم توفر الكتب بالقدر الكافي خاصة الكتب غير المدرسية الخاصة بالأطفال .
4- ضعف الصناعة الورقية .
و يرى سليمان العسكري أن النهضة الثقافية لا يمكن لها أن تقوم دون بعث هذه العناصر و إحاطتها بعناية خاصة ، ذلك أن هذه العناصر و غيرها هي التي خلقت الفجوة بين الثقافة في الوطن العربي وغيره من الأقطار ففي مسح ميداني لشوقي جلال توصل إلى أن " إجمالي الكتب المترجمة في الوطن العربي منذ الخليفة المأمون و حتى يومنا هذا يصل إلى عشرة آلاف عنوان ، أي يساوي ما ترجمته إسرائيل في أقل من خمس و عشرين سنة من وجودها ، أو ما ترجمته البرازيل في أربع سنوات ، أو ما ترجمته اسبانيا في سنة واحدة تقريبا "
[9] .
و تبقى الأداة الأساسية لمعالجة الثقافة هي الثقافة ذاتها إذ أن بعث ثقافة الجد مقابل ثقافة الهزل و ثقافة المسؤولية مقابل ثقافة اللامسؤولية هي الكفيلة بإعادة الثقافة إلى مكانها الصحيح .
إن مهمة الثقافة حسب محمد محفوظ هي " وقف حالات الانهيار و تحديد مواقع العجز و منع امتدادها الأفقي و العمودي حتى يتسنى للواقع العربي و الإسلامي أن يسترد أنفاسه و توازنه و يبدأ بترتيب أوراقه الاجتماعية و الحضارية "
[10] .
إن التنمية الثقافية تستدعي قبل كل شيء ارتكازها على العلم كقاعدة مؤسسة لها ذلك أن أية تنمية ترجى بعيدا عن العلم لا يمكن لها أن تسلم من الانحراف و هو جوهر الأوضاع التي تعيشها مجتمعات الدول المتخلفة حينما تعمد إلى تمويهات معينة للتدليل على سعيها لتطوير الثقافة لكن هذه الثقافة يؤسس لها بعوارض معينة من مصالح و أهواء دون العلم الذي يرقى بها إلى أعلى الدرجات ، و هو ما يؤكده محمد عابد الجابري في في كتابه " المسألة الثقافية في الوطن العربي " حيث يقول " ... و هكذا فإذا كانت التنمية هي العلم حين يصبح ثقافة " – فإن التخلف سيكون هو " العلم حين ينفصل عن الثقافة " - أو هو " الثقافة حين لا يؤسسها العلم "
[11] ، فضرورة الربط بين الثقافة و العلم هي السبيل الوحيدة للارتقاء بالثقافة.
2 - المثقف وضعه و دوره :
تشكل الأفكار و الفلسفات و العقائد و الأخلاق البنية الفوقية في المجتمع و هي دائمة التأثير على الواقع في جميع جوانبه و يعتبر المثقف وصيا على هذه البنية و هو عمودها الأساسي إذ أنه ينقل الأفكار و القيم و ينتجها و ينقدها و يعدل فيها و يرفضها و كل هذه العمليات تسلم إلى أن المثقف يشتغل على مكونات البنية الفوقية فيتعامل معها و بها ، كما أنه يتفاعل معها أيضا .
و عليه عرف المثقف بأنه " ذلك العامل المنخرط في أعمال معرفية تتطلب بالضرورة استخداما نقديا للعقل"
[12] فالاستخدام النقدي للعقل من سمة المثقف الواعي إذ أن النقذ يتطلب الوعي بالقضايا التي يعمل المثقف على نقذها و الوعي كذلك بأهمية هذا النقذ و ضرورته لحمل صفة المثقف و الاضطلاع بدوره .
والمثقف حسب أسعد دياب هو " شخص يفكر بصورة أو بأخرى مباشرة أو غير مباشرة انطلاقا من تفكير مثقف سابق ، يستوحيه يسير على منواله ، يكرره ، يعارضه ، يتجاوزه ، .....و التفكير تفكير في موضوع ، والموضوع إما أفكار و إما معطيات الواقع الطبيعي ، أو الاقتصادي أو الاجتماعي "
[13]، فقضايا الإيحاء و التكرار و المعارضة و التجاوز إنما هي عين النقذ التي يمارسها المثقف إزاء القضاياالمطروحة فهو يعيد إخراجها بصورة واعية مثلما تقتضيه حال المجتمع كهدف أول للمثقف يراعيه حين ممارسته لعمله النقذي .
ليس المثقف إذا من يكسب أو يستهلك كما محددا من المعلومات و المعارف و لكنه كما ذكر أسعد دياب من يفكر بصورة أو بأخرى و هو ما يسلمنا إلى أن كثرة الاستهلاك المعرفي والظفر بشهادات تعليمية عليا لا يكسبان الشخص صفة " مثقف " و لكن الذي يكسبه هذه الصفة إنما هو التفكير بصوره المختلفة من نقذ و تحليل و تقييم و إضافة و تعديل و غير ذلك من الصور .
إن ما يميز المثقف في أي مجتمع من المجتمعات حسب الدكتور هشام شرابي صفتان اثنتان هما :"
[14]"
1- الوعي الاجتماعي : الذي يمكن الفرد من رؤية المجتمع و قضاياه من زاوية شاملة ، و من تحليل هذه القضايا على مستوى نظري متماسك .
2- الدور الاجتماعي : الذي يمكن وعيه الاجتماعي من أن يلعبه ، بالإضافة إلى القدرات الخاصة التي يضفيها عليه اختصاصه المهني أو كفايته الفكرية .
فصفتا الوعي الاجتماعي و الدور الاجتماعي صفتان متكاملتان لدى أي شخص حيث يمكن الوعي الدور من الآداء الواعي و الفعال و بلوغ الهدف المنشود و يزيد الدور الوعي وعيا إضافيا كنتيجة للممارسة الميدانية التي تزيد من تفتح الفرد على القضايا التي يتصل بها و يشتغل عليها فيكتسب بذلك قدرة أكبر لتكييفها و تسييرها بوعي و دراية محكمين مما يزيد من نجاحه و يوسع من دائرة التحكم فيها والسيطرة عليها .
و يجعل محمد محفوظ للمثقف ثلاثة محددات أساسية هي :"
[15]"
1- القدرة على التفكير : و هي صفة خاصة لا تبذل لشخص يكتسب المعارف الغزيرة و لكن تبذل و تعطى فقط للقادر على إنتاج الفكر و صناعة الثقافة .
2- الصلة بالعلم و المعرفة : و تتحدد بالحب و الرغبة الذاتية في اكتساب المعرفة و تعميق قيم العلم في الذات و في المحيط الاجتماعي من جهة ، و من جهة ثانية بالتضحية و الفداء في سبيل العلم و المعرفة بحيث تكون أهم أولوياته في الحياة هي اكتساب العلم و تعميم المعرفة و تحقيق قيمها في الواقع الخارجي .
3- دوره في تعيين المصداق الخارجي : فليس المثقف من يحمل معرفة و فكرا فحسب بل هو أيضا من يمتلك القدرة على تحديد مصاديق لما يحمل من أفكار و معارف و رؤى فيهتم ببيانها و توضيح كيفيات تطبيقها في الواقع .
و قد اتصل مفهوم المثقف بصفة " الثورية " في المجتمع الاشتراكي المناضل من أجل سيطرة الطبقة العاملة على الأوضاع و الإطاحة بالنظام الرأسمالي ، كما اقترن مجموع المثقفين الثوريين بكلمة انتلجانسيا و هي ظاهرة برزت واضحة في المجتمعات الرأسمالية التي تسودها ظروف العجز و عدم القدرة على التنمية الاجتماعية و الاقتصادية وفق النمط الرأسمالي فيبرز هنا " دور خاص و حاسم لفئة اجتماعية تطرح بديلا للتنمية الرأسمالية و تعبر عن هذا البديل في مشروع إيديولوجي و ثقافي و سياسي شامل ، وتقوم بتنظيم الجماهير الشعبية و قيادتها "
[16] ، و هذه هي الأنتلجانسيا ، لكن الأنتلجانسيا المرتبطة بالطبقة العاملة ( البروليتاريا ) تقابلها انتلجانسيا أخرى مرتبطة بالنظام الرأسمالي فكل نظام له مثقفوه الذين يبثون الوعي الطبقي الذي يزيد في حشد الجماهير الشعبية إلى أحد الأطراف فيكون الوعي ثوريا أو محافظا بحسب تموقع هذه الإنتلجانسيا .
إذا لكل طبقة مثقفوها الذين يضمنون استمرارها بما يضفون عليها من وعي و انسجام و يكسبانها القدرة على المواجهة ، و هكذا أجاب أنطونيو غرامشي عن السؤال الذي طرحه في عنصر تكوين المثقفين من كتابة" قضايا المادية التاريخية" : " هل يشكل المثقفون طبقة اجتماعية قائمة بذاتها أم أن لكل طبقة اجتماعية فئة متخصصة من المثقفين ؟."
[17]
يجيب غرامشي : أنه " مع ولادة كل طبقة اجتماعية تقوم أصلا على ممارسة وظيفة مخصوصة في عالم الإنتاج الاقتصادي ، تولد عضويا مجموعة أو أكثر من المثقفين الذين يضفون على هذه الطبقة انسجامها و وعيها لوظيفتها ليس في المجال الاقتصادي و حسب ، و إنما في المجالين الاجتماعي و السياسي أيضا "[18].
و هكذا ربط غرامشي المثقف بصفتين أساسيتين هما صفة " المثقف العضوي "و " المثقف التقليدي " من خلال ارتباطهما بطبقة أساسية أي حاكمة أو متطلعة و لها القدرة على الوصول إلىى يومنا هذا يصل إلى عشرة آلاف عنوان ، أي يساوي ماتر الحكم ،" فالمثقف العضوي هو الذي يرتبط وجوده بتكون طبقة متقدمة فهو بالتالي مثقف الكتلة التاريخية الجديدة ، والمثقف التقليدي هو المرتبط بطبقات زالت أو في طريقها إلى الزوال ، أي طبقات تنتمي إلى كتلة تاريخية سابقة"
[19] .
و في سياق تعزيز دور المثقفين العضويين الذين يزيدون من تماسك الطبقات التي ينتمون إليها تعمل هذه الأخيرة على احتواء أو استبعاد المثقفين التقليديين الذين يشكلون مصدر خطر على سيادتها و وجودها ، فمن " أهم مميزات كل طبقة تتطور باتجاه السيطرة على الحكم نضالها من أجل استيعاب المثقفين التقليديين و غزوهم "إيديولوجيا " ، و بالقدر الذي تتمكن فيه الطبقة الاجتماعية من توليد مثقفيها العضويين خلال اضطلاعها بعمليتي الاستيعاب و الهضم ، بذلك القدر تتسارع وتيرة هاتين العمليتين و تزداد فاعليتهما "
[20] .
و أهم ما يميز نظرية غرامشي هذه تموقع المثقفين بين الدور الذي يؤدونه و الوضع الذي يحتلونه نظريا و واقعيا فنشاط المثقف و دوره في التنظير و تعزيز القيم المرتبطة بالطبقة التي ينتمي إليهاو يرتبط بها و يعزز بقاء هذه الطبقة و يعمل على تقويتها و بالتالي تقوية و تدعيم مركزه و وضعه داخلها فيكون لدوره بالتالي أثره الواضح في موضعته داخل هذه الطبقة و في طبيعة علاقته معها و مع مختلف الطبقات الأخرى .
ثم أن الدور الذي يؤديه المثقف في أي مجتمع كان وحده الذي يضع المثقف في وضع معين فيكون مساندا للسلطة أو معارضا لها و يكون مبشرا بقيم معينة أو منفرا منها ، و هو وحده الذي يصنع له مكانته الاجتماعية و العلمية و يبعده عنها ، و لكن بالمقابل أليس للوضع الذي يعيشه المثقف أثر في صنع هذا الدور الذي يؤديه بالذات ؟
يبرز لنا الواقع الكثير من المساومات السياسية التي تستهدف المثقف و ضمه إلى الصف بغرض إضفاء الشرعية العلمية على الممارسة السياسية أو تهميشه و الحيلولة دون فعاليته الفكرية و العلمية لئلا يحول دون تمرير المشاريع الإيديولوجية و الاجتماعية التي تتبناها الجهة المسؤولة عن هذه المساومات .
كما تعمل البيئة أو الوضع المؤدلج ( من الأيديولوجيا ) على تكييف دور المثقف و توجيهه فيصبح دوره هنا تابعا للوضع الذي يحياه و هو مرتبط بجماعة بشرية تعيش وصفا معينا كأن ينذر المثقف نفسه للدفاع عن قيم هذه الجماعة لأن هذا الوضع جعله يؤمن بها و يسخر علمه و ثقافته لخدمتها أو أن يدفع هذه القيم عن تلك الجماعة إذا حدث أن أثر فيه وضع بيئة أخرى مخالفة تمثل قيهما الفكرية والأخلاقية ، و في كلتا الحالتين فإن الوضع الفكري و الإيديولوجي الذي يعيشه المثقف في البيئة التي ينتمي إليها جسديا أو فكريا يعمل على تحديد دور ه الثقافي و الاجتماعي .
و إشكالية الوضع و الدور هذه يمكن أن تأخذ طرحا آخر فقد حددنا علاقة الوضع بالدور من خلال " ما هو كائن " عليه هذا الوضع لا من خلال " ما يجب أن يكون " فوضع المثقف بصيغة " ما هو كائن " أي الوضع الذي يعيشه المثقف له أثره الواضح – كما قدمنا – على الدور الذي يؤديه و اتجاهات هذا الدور ، لكن الوضع الذي يجب أن يكون عليه المثقف هو وضع من نوع آخر إذ يتحدد بصفة المثقف ذاته و هذا الوضع الذي يجب أن يكون عليه يكاد يكون متطابقا مع دوره الفعلي الذي يلعبه إذ الفرق الوحيد هو فقط فرق بين الصفة و الموصوف .
نجد من الداعمين لهذا الرأي المفكر علي حرب الذي يقر بأن الوضع الذي يجب أن يحتله المثقف هو وضع الإنتاج و الإبداع و النقذ الثقافي ، فصفة المثقف من هذه الناحية إذا هي النقذ و الإبداع و الإنتاج والمثقف هو الموصوف بهذه الصفة فهو الناقذ و المبدع و المنتج للثقافة و المعرفة و دوره يتحدد بهذا الوضع الذي يجب أن يكون عليه ، فهذا الوضع إذا لا يعدو أن يكون تلك العمليات الثقافية كلها ، و عليه رفض علي حرب أن يتناسى المثقف مهمته الأساسية لصالح مهام أخرى تحل محلها على غرار مهمة السياسي و الداعية و النبي و الكاهن و غير أولئك ، وراح يحدد دور المثقف في إبداع الفكر المؤثر وحده في مجرى الأحداث و تغيير الأوضاع و في خضم هذا التحديد طرح علي حرب جملة من الأوهام التي يتخبط فيها المثقف و هذه الأوهام كثيرة حسبه و لكنه اكتفى بخمسة منها هي :"
[21]"
1- وهم النخبة ، و تعني سعي المثقف إلى جعل نفسه وصيا و قائدا للمجتمع و الأمة ، لكنه سرعان ما يجد نفسه محاصرا نتيجة نرجسيته و تعامله مع نفسه على نحو اصطفائي نخبوي .
2- وهم الحرية : و هو اعتقاد المثقف أن بإمكانه تحرير الشعوب من أشكال التبعية و الفقر و التخلف دون الاهتمام بالإنتاج الفكري الذي يساهم في معرفته بالإنسان و المجتمع و السياسة .
3- وهم الهوية : و هو اعتقاد المثقف أن بإمكانه البقاء قابعا على تراثه دون أن يجدد و يبدع فيه و هو ما جعله ينشغل بهذا التراث دون أن يشتغل عليه من خلال عمل فكري مبدع .
4- وهم المطابقة : و هو اعتقاد المثقف أن الحقيقة جوهر ثابت سابق عن التجربة يمكن الإطباق عليه من خلال الخطابات و التصورات و ترجمته واقعيا من خلال المؤسسات و التشريعات .
5- وهم الحداثة : و هو أكبر عائق بين المفكر و استقلاله الفكري إذ أن مضمونه هو تعلق الحداثي بحداثيته تماما كتعلق التراثي بتراثه فالاثنان مقلدان .
إن توجيه المثقف نظره إلى مجال اختصاصه هو الضامن الوحيد له للنجاح ، و مجال اختصاصه كما أوضح علي حرب هو الاشتغال بالفكر أي إنتاج الأفكار في مجالات الثقافة المختلفة و لقد اعتبرت إحدى المهام الأساسية للمثقف سعيه " لبناء العقل و الوعي و تحصينهما من كل المغريات و الشبهات و تبني قضايا المجتمع و ممارسته التوعية و العمل على التغيير و البناء "
[22] ، و لكن بناء العقل و الوعي تبدأ من الذات فالأولى هو بناء الوعي الذاتي بمعنى وعي المثقف بذاته كمثقف أي وعيه بدوره ، بما يجب أن يقوم به و مع ماذا يتعاطى و أي الوسائل يستخدم و أي الطرق ينتهج ثم إذا حصـل كل هذا سعى إلى بناء وعي المجتمـع و الأمة من المنطلق ذاته .

الهوامش :

[1] - الطاهر لبيب - سوسيولوجيا الثقافة -. دار الحوار للنشر والتوزيع- اللاذقية، سوريا- ط 3- 1987–– ص 28 .
[2] - سمير أمين – التمركز الأوروبي نحو نظرية للثقافة – موفم للنشر – الرغاية – الجزائر – 1992 – ص 3 .
[3] - مالك بن نبي – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي – ترجمة محمد عبد العظيم علي – المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية – وحدة الرغاية – الجزائر – 2005 – ص 55 .
· المرآوية : نسبة إلى المرآة .
[4] - محمد عابد الجابري – إشكاليات الفكر العربي المعاصر – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت ، لبنان – ط 5 – 2005 – ص 14 .
[5] - خليل أحمد خليل و محمد علي الكبسي – مستقبل العلاقة بين المثقف و السلطة – سلسلة حوارات القرن الجديد - دار الفكر – دمشق – سوريا –ط 1 –2001 ص13 .
[6] - مالك بن نبي – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي – مرجع سابق – ص 57 .
[7] - سليمان العسكري –" الثقافة و الإنسان العربي – إطلالة على المشهد الراهن-" – مجلة العربي – مجلة شهرية – وزارة الإعلام – الكويت – عدد 509 – 2001 – ص 11 .
[8] – نفس المرجع – ص 11 ، 12 .
[9] - نفس المرجع – ص 12 .

[10] - محمد محفوظ – الحضور و المثاقفة ( المثقف العربي و تحديات العولمة ) – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – ط 1 – 2000 – ص 84 .
[11] - محمد عابد الجابري – المسألة الثقافية في الوطن العربي - مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت ، لبنان- ط2-1999 – ص 103 .
[12] - محمد أركون – قضايا في نقد العقل الديني – كيف نفهم الإسلام اليوم – ترجمة هاشم صالح – دار الطليعة – بيروت لبنان – ط 1 - 1988 – ص 221 .
[13] - مجموعة من الكتاب – دور المثقفين في الوطن العربي و ديار الإنتشار في نهضة بلدانهم و دعم القضايا العربية – المجمع الثقافي العربي – بيروت، لبنان – ط 1 – 2003 – ص 99 .

[14]- هشام شرابي – مقدمات لدراسة المجتمع العربي – دار الطليعة للطباعة و النشر – بيروت – لبنان – ط 4 – 1991 –
ص 98 .
[15] - محمد محفوظ – مرجع سابق – ص 22 ، 23 .

[16] - سمير أمين – مرجع سابق – ص 188 .
[17] - أنطونيو غرامشي – قضايا المادية التاريخية – ترجمة فواز طرابلسي - دار الطليعة للطباعة و النشر – بيروت ، لبنان – ط 1 – 1971 – ص 127 .
[18] - نفس المرجع – ص 127 .
[19] - الطاهر لبيب – مرجع سابق – ص 39 .
[20] - أنطونيو غرامشي – مرجع سابق – ص 133 .
[21] - علي حرب – أوهام النخبة – أو نقد المثقف – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – بيروت – ط 2 – 1998 –
ص 97 .
[22] - م. رابح -" المثقف و الفقيه : إشكالية الموقع و الدور " - المثقف – أسبوعية وطنية جزائرية مستقلة - عدد 6 - من 4 إلى 12 جويلية 2007 – ص 07 .

الخميس، 26 نوفمبر 2009

عن الاختلاف في نشأة الجامعة

سفيان ميمون
ليست الجامعة ولا تقاليدها وليدة العصر الحاضر و لكنها ضاربة بجذورها في الماضي البعيد حتى صار الباحث في كنهها يذهل عن وصفها و تعريفها و منحها مفهوما شاملا و جامعا نتيجة التداخل بين مكوناتها و أجزائها ناهيك عن تحديد بوادرها الأولى .
إن عملية التحديد هذه قائمة لدى المهتمين بهذا الشأن على أساسين اثنين :
- أولا قضية الشكل و التسمية .
- ثانيا قضية المقومات .
1- قضية الشكل و التسمية :
يرجع كثير من الدارسين ظهور الجامعة إلى العصور الوسطى في أوروبا حيث تقترب جامعات هذا العصر في شكلها من جامعات عصرنا الحالي ، فخلاله " طورت الجامعات كثيرا من ملامحها التي تسودها اليوم من اسم و موقع مركزي ، و أساتذة على درجة من الاستقلال الذاتي ، و طلبة و نظام ومحاضرات و إجراءات للامتحانات و الدرجات بل حتى كيان إداري "
[1]و هو الأمر ذاته الذي بينته الموسوعة البريطانية حيث أوردت أن " الجامعات الحديثة قد تطورت عن مدارس العصور الوسطى التي كانت بمثابة المدرسة العامة أي المكان الذي يستقبل طلاب العلم الوافدين من جميع الجهات "[2] .
لقد تركز هؤلاء الطلاب في مراكز العلم الأولى و كانت نشأة المدن عامل جدب و تركيز مهم لما تتطلبه حاجات الجماعة إلى الطب و القانون و الدين و الفلسفة و غيرها فبرزت جامعات في جنوب أوروبا و وسطها كجامعة بولونيا في إيطاليا التي اختصت في القانون و جامعة سارلنو التي عرفت بتدريس الطب ، كما كان اللاهوت يدرس في جامعة باريس ( السربون ) التي اكتست قيمة خاصة " و لما كان اللاهوت موضوع الدراسة الأسمى وقتذاك اطلق على هذه المدرسة اسم – سيدة العلوم العليا – "
[3] ، و كانت جامعات الشمال كأوكسفورد و كمبردج في انجلترا و جامعات ألمانيا بأسرها تقليدا لجامعة باريس التي سبقتهم إلى إرساء قواعد تنظيمية و منهجية في التعليم الجامعي ، فيما اتجهت أمريكا إلى تقليد الجامعات و المعاهد الانجليزية .
وبمرور الزمن تخفت شهرة بعض الجامعات كسالرنو و تظل أخرى شامخة إلى يومنا هذا ، غير أن ما يجب تقريره حسب جوزيف نسيم يوسف هو " أن جامعة القرن العشرين إنما هي سليلة و وريثة جامعتي باريس و بولونيا في العصر الوسيط ، فقد كانت هاتان الجامعتان هما الصخرة التي اقتطعنا منها،و الحفرة التي نقبنا فيها و المنهل الذي نهلنا منه ، لقد ظل التنظيم الأساسي للجامعة كما هو دون أن يطرأ عليه أي تغيير ، كما ظل الامتداد التاريخي قائما متصلا ، فهم الذين خلقوا التقاليد الجامعية المعروفة في العالم الحديث ، تلك التقاليد التي نراها في كافة معاهدنا العليا الجديد منها و القديم، و التي كان جميع رجال الجامعات و الكليات على علم ودراية بها "
[4] .
إن ما يمكن ملاحظته في نشأة الجامعات و تطورها في أوروبا و أمريكا هو ذلك الخط الزماني والمكاني الذي سارت وفقه هذه الجامعات فمن الساحل الجنوبي الأوروبي إلى أواسط أوروبا فشمالها ثم أمريكا من الناحية الجغرافية و كذلك تدرجها على الخط نفسه من الناحية الزمنية إذ نشأت أولى الجامعات في جنوب أوروبا وفي إيطاليا بالضبط ثم فرنسا من خلال جامعة باريس ثم انجليترا من خلال أوكسفورد و كمبردج اللتين كانتا تقليدا لجامعة باريس - كما ذكرنا – إلى جانب الجامعات الألمانية ثم الأمريكية التي نشأت مؤخرا على شاكلة جامعات انجلترا .
إن المتتبع لهذا التطور الزمكاني الذي بعث الجامعات الأوروبية خلال هبةعلمية متجهة من جنوب أوروبا إلى شمالها لا يمكن له أن يسلم ببساطة أن المدن التي تحتضن جامعتي سالرنو و بولونيا هي مركز الانطلاق ، ذلك أن زمن هذه الهبة كان متزامنا مع توافد العلوم العربية على أوروبا و إقبال الأوروبيين على طلب العلم لدى العرب الذين كانوا على عهد بازدهار العلوم المنطقية و المادية على حد سواء ، و في هذا الشأن يقول الدكتور جوزيف نسيم يوسف " على أية حال فقد حدث أن تسرب إلى الغرب فيما بين 1100 و 1200 م سيل عارم من العلم و المعرفة الجديدين،و قد تسرب بعض هذا العلم عن طريق إيطاليا و صقلية ، و لكن الجانب الأكبر منه وصل إلى الغرب عن طريق العلماء العرب في إسبانيا بصفة خاصة "
[5] .
و يرى ايدجار فور أن نشأة الجامعات في العصور الوسطى كانت نتيجة لازدهار المدن التجارية التي عمل أعيانها من الطبقة البرجوازية الناشئة على المحافظة على ما تتمتع به من حرية و شهرة بفضل إقامة جامعات في هذه المدن تكون مصدر تلبية للحاجات المختلفة للمدينة بما يضمن بقاء استمرارها ، غير أن " الفضل في هذا الشأن يرجع إلى العالم العربي و الإسلامي الذي انتشرت ثقافته المزدهرة إلى أقاصي آسيا و إفريقيا و أوروبا "
[6] .
كما يؤكد محمد منير مرسي أن مناهج الجامعات في العصور الوسطى " اعتمدت على حصاد الفكر العربي و كانت مؤلفات العلماء العرب في مختلف الفروع و الميادين مراجع للدراسة بهذه الجامعات لقرون طويلة "
[7] .
إن هذا الامتداد الفكري و العلمي الذي يربط بين زمن يرى فيه البعض مولد و منشأ أولى الجامعات و بين ما قبله حيث العلوم تتشكل و تتطور دون أن تضمها جامعة بعينها هو الذي جعل أمر تحديد نشأة الجامعات الأولى و أساسه أمرا معقدا ، فبينما يعرض باحثون جامعات العصور الوسطى على أنها أولى الجامعات نشأة و ظهورا بناء أو تسمية يرى باحثون آخرون بأن نشأة الجامعة موغل في الزمن الغابر .
2- المقومات :
الجامعة قبل أن تكون بناء هي في بادئ أمرها روح قوامها العلم و المعرفة ، فطالما أن التعليم هو الدعامة الأساسية لقيام الجامعة و أن هذه الأخيرة لن تقوم لها قائمة دون هذه الصناعة*
[8] ، فإن نشأة الجامعة يكون مترادفا من خلال هذه الرؤية مع نشأة التعليم ذاته .
لقد عرفت الحضارات القديمة التعليم و استخدمته أساسا لقيام حضاراتها تلك ، وعلى هذا يعتبر البعض فكرة الجامعة قائمة مقدما على التعليم الذي أسهم في بناء هذه الحضارات بل وفي بناء الحضارات التي تليها خذ لذلك مثلا فلسفة اليونان و قوانين الرومان و أثرهما في الحضارة الأوروبية الحديثة .مع الاعتبار بأن هذه الحضارات هي صنيع الجامعة و علمائها الذين نهلوا من علم و فلسفة و قانون الحضارات السابقة.
" ففكرة الجامعة يرجعها البعض إلى أعماق التاريخ فيتتبعها إلى أيام الحضارات القديمة في الصين و بابل و مصر كما فعل الدكتور محمد الهادي عفيفي الذي يعتبر الجامعة من الخصائص الرئيسية للمجتمعات القديمة و من أهم مؤسساتها ، غير أن البعض الآخر يكتفي بالوقوف عند أكادمية أفلاطون ، أو ليسيه أرسطو ، أو رواق زينون ، أو حديقة أبيقور ليصفها بأنها كانت بمثابة أولى الجامعات حيث كان لكل مؤسسة من هذه المؤسسات رسالة تؤديها ، و معلم يقوم على التدريب فيها و مديرون يقبلون على الاستماع إلى معلمهم .... "
[9] .
كما يعتبر الدكتور محمد المهين أكاديمية أفلاطون أول أكاديمية تحمل خصائص التعليم الجامعي فلقد كانت حسبه " أول أكاديمية منظمة يمكن اعتبارها بشكل أو بآخر على أنها درجة من درجات التعليم العالي ( الجامعي ) و كانت هذه الأكاديمية تدعو إلى الحق من أجل الحق و هي تدعو أيضا إلى حق الفلاسفة في أن يصبحوا ملوكا "
[10] .
إن الذي يبني تصوره لفكرة الجامعة على هذا الأساس لا يمكنه بأية حال من الأحوال أن يغفل عهد النهضة العلمية و الثقافية الإسلامية حيث كان التعليم مزدهرا و العلم مشعا بنوره أقطارا واسعة في العالم الإسلامي و في غيره من الأقطار و دليل ذلك أن الأزهر الذي بني على يد الدولة الفاطمية في القرن العاشر من الميلاد (970 م ) كان بحق جامعة منفردة على الرغم " من أنه لم يطلق عليه اسم جامعة إلا عندما أعيد تنظيمه عام 1961 "
[11] فضلا عن جامعة قرطبة في إسبانيا خلال القرن العاشر وقبلهما جامعا الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب حيث كانت كلها منارات للعلم و أعشاشا لتفريخ العلماء ، كما كان بيت الحكمة في بغداد حيث نجد فيه الكثير من مهام الجامعة الحديثة من محاضرات و مناظرات وكتب و ترجمة بإشراف الخليفة المأمون " فعلى الرغم من أن نواة هذا البيت تعود إلى " خزانة الحكمة " التي أ سسها والده – هارون الرشيد – فإنه غدا في عهده مجمعا ثقافيا و علميا متكاملا ، حيث اشتمل على قاعات للترجمة و النسـخ و البحث و المطالعة و المناظرة و على مكتبة مفتوحـة لمن يرغب في العلم ، و اجتمعت في هذا البيت " كنوز الثقافة العربية الإسلامية مع كنوز الثقافات الأجنبية "[12] .
و خلال العصور التي سادت فيها الثقافة الإسلامية كان المسجد يؤدي المهام التي تؤديها جامعة اليوم فلقد وصفه طه حسين بأنه " الصورة الأولية للجامعة في الإسلام "
[13] كما يقر طه الوالي بأن" المسجد كان يقوم في الماضي بنفس الدور الذي تقوم به اليوم المؤسسات التعليمية الجامعية في حقول المعرفة والعلم و الفكر فكان منتدى لجميع أنواع العلوم من طب و هندسة و بلاغة و غيرها من العلوم التي ازدهرت في أحضان الأمة الإسلامية ، و الحديث عن كبار العلماء الذين يعتز بهم الفكر الإسلامي كل هؤلاء العلماء بدأو حياتهم العلمية في المساجد "[14] .
و ما يمكن استخلاصه من هذا العرض أن فكرة الجامعة كانت موجودة قبل إحداث جامعات العصور الوسطى في أوروبا فجامعات سالرنو و بولونيا و باريس و أكسفورد و كامبردج كانت نتيجة لتدفق العلوم من الشرق العربية منها و اليونانية ، هذه الأخيرة لم تكن منبعثة من فراغ و لكن هذه العلوم كان أكثرها منظما - بادئ الأمر – في أكاديميات و جامعات بعينها لا تقل شأنا و لا حتى تنظيما من جامعات أوروبا في العصور الوسطى كأكاديمية أفلاطون و جامعات الأزهر و قرطبة و غيرها ، غير أن كثيرا من الدارسين يصرون على أن جامعات العصور الوسطى في أوربا و بالذات جامعات سالرنو و باريس هي الجامعات الأولى ظهورا و نشأة .
الهوامش
[1] - سامي سلطي عريفج – الجامعة و البحث العلمي – دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع – عمان ، الأردن – ط 1 – 2001 – ص 21 .
[2] - نفس المرجع- ص 20 .
[3] - جوزيف نسيم يوسف – نشأة الجامعات في العصور الوسطى – دار النهضة العربية للطباعة و النشر – بيروت - 1981– ص 266 .
[4] - نفس المرجع– ص 239 ، 140 .
[5] -– نفس المرجع- ص 243 .
[6] - إيدجار فور – تعلم لتكون – ترجمة حنفي بن عيسى – اليونيسكو / الشركة الوطنية للنشر و التوزيع – الجزائر- ط2 – 1976 –ص 50 .
[7] - محمد منير مرسي – الاتجاهات الحديثة في التعليم الجامعي المعاصر – عالم الكتب – القاهرة – ط 1 – 2002 – ص 13
[8] - يعتبر العلامة عبد الرحمان بن خلدون أن التعليم من جملة الصنائع فحين يمضي في إيضاح الفرق بين أهل المشرق و المغرب في هذه الصناعة يقر أن " أهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم ، بل و في سائر الصنائع " – لمزيد من التفاصيل انظر مقدمة ابن خلدون – فصل: في أن تعليم العلم من جملة الصنائع .
[9] - سامي سلطي عريفج – مرجع سابق - ص 17 .
[10] - محمد مهيني – الإدارة الجامعية – مطابع الرسالة – الكويت – ط 1 – 1984 – ص 14
[11] - محمد منير مرسي – مرجع سابق – ص 7 .
[12] - عادل زيتون – " العباسيون يرعون العلم و العلماء" – مجلة العربي – وزارة الإعلام – الكويت – عدد 509 – أفريل 2001 م – ص 76 .
[13] - سامي سلطي عريفج – مرجع سابق – ص 18 .
[14] - طه الوالي – المساجد في الإسلام – دار العلم للملايين – بيروت ، لبنان - دون سنة نشر – ص 164 ، 166 .

الأحد، 22 نوفمبر 2009

رؤية مالك بن نبي للثقافة

سفيان ميمون
ينظر المفكر الجزائري مالك بن نبي إلى الثقافة على أنها ذلك التفاعل الذي يحصل بين عوالم ثلاثة، عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء والتأثير والتأثر حاصل بين هذه العوالم بما يخلق ثقافة أو يحركها في اتجاه معين، والثقافة عنده هي "العلاقة التي تحدد السلوك الاجتماعي لدى الفرد بأسلوب الحياة في المجتمع ، كما تحدد أسلوب الحياة بسلوك الفرد "
[1]
ويبين مالك بن نبي أن أي مجتمع في بدايته لا يتهيأ له أن يشرع في بناء عالم أشيائه، ولكن عالم أفكاره هو الذي يبدأ في التكوين انطلاقا من بوادر تفكير إيديولوجي، ولمعرفة دور الأفكار في ظاهرة التثقيف فإنه من الضروري تحديد الظروف التاريخية و الاجتماعية التي تؤدي دورها فيها، فالنشاط الاجتماعي والثقافي لفكرة ما مرتبط في الواقع ببعض الشروط النفسية الاجتماعية التي بدونها تفقد الفكرة فاعليتها، إن الفكرة عند مالك بن نبي ليست مصدرا للثقافة ولكنها مرتبطة بطبيعة علاقتها بمجموع الشروط النفسية الزمنية التي ينطبع بها مستوى الحضارة، وهو مستوى قد يتغير حسبه بطريقتين : "
[2]"
1- عندما يرتفع تعرض له أفكار ليست من بين القوى الجوهرية التي نتجت عنها الحركة التاريخية، فإذا بهذه الأفكار تتقادم ثم تختفي.
2- وعندما يهبط تنقطع صلة بعض الأفكار بالوسط الاجتماعي ذاته أي تنقطع من منابع خلقية وعقلية صدرت عنها فتكسب هذه الأفكار وجودا صناعيا غير تاريخي وبذلك تفقد كل معنى اجتماعي .
وما يمكن تقريره من فلسفة مالك بن نبي حول الثقافة أن هذه الأخيرة هي تعبير حسي عن العلاقة التي تربط الفرد بالعالم المحيط به في جانبه الروحي ، فالإعلان عن موت الفرد ثقافيا يتم بمجرد ابتعاده عن المجال الثقافي الذي يحيط به ، ثم إن ثمة علاقة واضحة بين مجالين يعدان بحق قطبي الثقافة هما الجانب النفسي و الجانب الاجتماعي ، و أن التفاعل بينهما أمر واضح في مواقف السلوك المختلفة ، لقد بين مالك بن نبي هذه العلاقة بمثال من التاريخ الإسلامي عن عمر بن الخطاب الذي خطب في المسلمين حين توليه الخلافة قائلا : " أيها الناس من رأى منكم فيﱠ اعوجاجا فليقومه " فكان الرد من أحد البدو البسطاء " و الله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا " ، يقول مالك بن نبي : " و الواقع أن عمر في قولته تلك كان متجها صوب المجتمع الإسلامي ، و أن الذي أجابه إنما هو ذلك المجتمع على لسان البدوي، وهكذا نرى بطريقة مباشرة العلاقة المتبادلة بين الجانب النفسي والجانب الاجتماعي مجسدة في رجلين كان موقفهما انعكاسا لأسلوب الحياة من ناحية و تعبيرا عن سلوك معين خاص بالمسلم في ذلك العصر من ناحية أخرى ، وفي الوقت ذاته يظهر هذا التشابه في الحدود الروحية للمجتمع حين يرسم داخل هذه الحدود معالم ثقافة محددة، فالخليفة المسلم والراعي المسلم يتصفان بسلوك واحد لأن جدور شخصيتهما تغور في أرض واحدة هي المجال الروحي للثقافة الإسلامية"
[3].
ومما يسلم إلى الحكم على الثقافة خيرها وشرها، جميلها وقبيحها مقاييس ذاتية خاصة تسمح بتحديد دور العقل و اتجاهه و تمييز مجتمع معين عن مجتمع آخر و هي بذلك المعنى تحدد المباني الشخصية والاجتماعية في الفرد مما يؤول بها إلى تحديد رقعتها و حدودها ، وما هذه إلا خاصية الثقافة حسب مالك بن نبي ، و يعمل الفرد حسبه على انتقاء المقاييس الذاتية التي تحدد انتماءه إلى نمط ثقافي معين دونما شعور منه و لا وعي و إنما يتلقاها من محيطه الذي يحيا فيه عفوا .
و يبدو أن لمالك بن نبي نظرة شاملة في كيفية إعداد ثقافة معينة فأية ثقافة لا يمكن لها أن تقوم وتنشأ إلا في أحضان البيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد بحيث تنشأ علاقة تفاعلية بينهما (البيئة والفرد) و هو ما عبر عليه مالك بن نبي بأسلوب الحياة عندما وصف البيئة و السلوك الاجتماعي حينما وصف الفرد في حركيته إزاء هذه البيئة ، فالإطار الثقافي الأشمل هو المحدد لأية ثقافة من شأنها أن تتشكل ، و تتشكل معها القيم الثقافية التي تكون نتيجة لهذا الإطار في كليته و ليس نتيجة لجزء منه كالمدرسة مثلا التي يخطئ الكثير في اعتبارها المنتجة لهذه القيم و المحددة للسلوك الفعال ، فالمدرسة تعد عنده عاملا مساعدا من عوامل الثقافة ، و هي وحدها ليس بمقدورها أن تحل مشكلة الثقافة و لكن حلها يكون في إطار ثقافي شامل .
و ما يطبع العلاقة بين قطبي الثقافة عند مالك بن نبي هو " وجود نشاط متبادل بين أسلوب الحياة وبين السلوك بطريقة تجعل واحدها يرمي إلى الاحتفاظ بالآخر في خط مطلبه واقتضائه الخاص، وبعبارة أخرى فإن المجتمع يقتضي سلوكا معينا من الأفراد ، و هؤلاء يقومون برد الفعل عن طريق اقتضائهم الخاص في صورة أسلوب معين للحياة بحيث يتم هذا التبادل الذي يتولى تعديل الإطار الثقافي بطريقة ذاتية في صورة إرغام اجتماعي من ناحية و عملية نقذية من جهة أخرى "
[4].
فهدف الثقافة التي تختص بها بيئة معينة هي أن تخلق سلوكا يتبناه الأفراد يكون متوافقا مع خصائصها و ميزاتها بحيث يكون هذا السلوك ملزما و قابلا للرفض و التعديل في الوقت ذاته ، انطلاقا من حركية الإنسان و نشاطه العقلي ، و انطلاقا كذلك من طبيعة العلاقة بين أسلوب الحياة و السلوك الاجتماعي الذي يبرز فيه عنصر التفاعل بشكل واضح ، فكما أن لأسلوب الحياة أن يؤثر في السلوك فإن لهذا الأسلوب أن يتأثر بالسلوك كذلك، ففي تقريره لهذه العلاقة يميز مالك بن نبي بين مجتمعين هما المجتمع البدائي و المجتمع التاريخي مبرزا طبيعة السلوك الذي يمكن أن يفرزه أي من هذين المجتمعين "فعندما يقوم مجتمع بدائي بوضع ( المحرمات ) حول تقاليده وأذواقه و استعمالاته لا يكون المحرم مدعاة للضحك في ذاته ، و لكنه الفراغ الثقافي أو – اللاثقافة – التي يقوم بالدفاع عنها وأعني بهذا مجموعة الأسباب التي ستبقي هذا المجتمع على ما هو عليه من ركود ، أما بالنسبة لمجتمع تاريخي فإن دفاعه عن أسلوب حياته هو دفاع عن شخصيته ،وعن مبدأ إدماج أفراده في نطاقه وتحديد علاقتهم به، بحيث يصبحون بمثابة التعريف به، كما يصبح مجتمعهم بمثابة المعرف لهم، فالإرغام الاجتماعي و الموقف النقدي للفرد :هما المظهران الأساسيان لثقافة معينة في وظيفتها "
[5] .
الهوامش:
[1] - مالك بن نبي – مشكلة الثقافة – ترجمة عبد الصبور شاهين – دار الفكر – دمشق – ط 4 – 1984 –ص 43 ।
[2] - مالك بن نبي – نفس المرجع – ص 44 .
[3] - مالك بن نبي – نفس المرجع – ص 52 .
[4] - مالك بن نبي – آفاق جزائرية – ترجمة الطيب شريف- مكتبة النهظة الجزائرية – الجزائر – 1991 – ص 132 .
[5] - مالك بن نبي – نفس المرجع – ص 132، 134 .

الجمعة، 2 أكتوبر 2009

الاغتراب الثقافي للإنسان العربي

سفيان ميمون

اختلف المنظرون في إسناد الاغتراب إلى وسط من الأوساط أو إلزامه الذات حيث يكون المغترب هو وجهة الاغتراب ذاتها ، و لكنهم اتفقوا جميعا أن الاغتراب لابد أن يكون محددا بسند ، و ذلك بطرح السؤال اغتراب عن ماذا ؟ فتكون الإجابة : اغتراب عن المجتمع و اغتراب عن الثقافة و اغتراب عن الذات ...........
لقد كان فيور باخ يرى أن اتجاه الإنسان نحو عبادة الإله و نشدان الخير لديه إنما هو اغتراب عن الذات ، فكلما اقترب المرء نحو هذا الإله ابتعد عن ذاته و اغترب عنها و هي نظرة مثالية متعالية عن الواقع الاجتماعي الذي أعطاه ماركس حقه من التحليل وفق جدل الطبقات ، فماركس على غرار تحليله لمعطيات الواقع الاجتماعي نظر إلى الاغتراب نظرة مادية في سياق ما تنتجه علاقات الإنتاج حيث يغترب العامل عن سلعة أنتجها بمجرد عجزه عن استخدامها فيكون في حالة اغتراب عن جهده و ذاته .
كما دقق دوركايم في لفت الانتباه إلى تعلق الاغتراب و ارتباطه بالثقافة من خلال مفهوم " اللامعيارية " الذي يشير إلى حالة انعدام المعايير في المجتمع ، فحينما تغيب هذه المعايير تفقد أفعال و سلوكات الأفراد أي سند اجتماعي و يدخل المجتمع في فوضى نتيجة غياب قواعد ضابطة لهذه السلوكات و الأفعال ، و هنا يتمثل لنا الاغتراب عن المجتمع و قواعده كظاهرة اجتماعية و ثقافية تعبر عن حالة الانفصام بين المجتمع و أفراده .
من خلال استقصاء بسيط للتراث النظري الذي يتناول مفهوم الاغتراب و تتبعه كظاهرة اجتماعية في الواقع الاجتماعي نجده صنفين : اغتراب عما هو كائن ، أي اغتراب عن الواقع الاجتماعي و الثقافي ، و اغتراب عما يجب أن يكون ، أي اغتراب عن واقع غير محقق يرجى تحقيقه ويدعي المدعون أنهم مغتربون في الواقع الحالي مغتربون عن الواقع المنشود .
بهذه الصورة التي يتعدد فيها الواقع بين معاش و افتراضي استطاع عصر الانترنت أن يفرض علينا نمطا معيشيا يفتقد إلى الاستقرار و التوافق حيث أصبح لكل وجهة هو موليها دون مرجعية معترف بشرعيتها لدى جميع أفراد المجتمع ، فمن مدع بأننا ابتعدنا عما كان و هو الذي يجب أن يكون دوما فاغتربنا بذلك في نمط معيشي جديد لم يكن مقررا و هو ما جلب لنا كل وباء ، و من مدع آخر أننا مازلنا بعيدين عن جوهر ما يجب أن نكون عليه و أن بقاءنا على هذه الحال إنما هو عين الاغتراب عن جوهر الحضارة و المدنية .
لقد اغترب الإنسان العربي حينما أغرق في تمجيد واقع له سلبياته ، واغترب أكثر حينما سعى إلى نشدان واقع آخر دون واقعه الأول فاختلط عليه الحابل بالنابل و عسر على المجتمع أن يميز بين المواقع التي يثبت فيها ذاته ، لقد صار حائرا كالطائر تماما ينتقل من شجرة إلى شجرة دون أن يميز بين الشجر أي ثماره أحلى .
يناقض الاغتراب الثقافي لدى من يتمسكون بالتراث الهوية و الانتماء و تمجيد الثقافة الوطنية التي تعد الحصن الحصين للذات العربية و مبعث كل نهضة ، إنها كذلك لارتباطها بالقيم الدينية المقدسة و الانتماء إلى وطن واحد يكون مصدرا لتوليد الشعور بالانتماء الذي يعزز التمسك بالوطن في الشدة و الرخاء ، فالاغتراب لدى الإنسان العربي الذي يتمسك بهويته و ثقافته الوطنية أو القومية هو كل اتجاه يبتعد به عن هويته وثقافته ، و هو كل ممارسة تدل على ابتعاد عن الهوية بكل مكوناتها اللغوية و الدينية و التاريخية ، ناهيك عن كونه شعورا و إحساسا بعدم الانتماء الثقافي إن كان ذلك احتقارا للثقافة المحلية و استعلاء عليها أو إيمانا بعدم قدرة هذه الثقافة على تحقيق طموح علمي أو حضاري منشود .
لقد أدى فهم الاغتراب على هذا النحو لدى بعض المثقفين إلى الاحتماء بالتراث و تثبيته أصلا و مقياسا لقياس الانتماء إلى الأمة ، كما جعلوا منه قاعدة لكل عمل سليم موصل إلى النجاح ، و ليس ذلك مروقا أو خروجا عن جادة الصواب إذا لم يرفق بشيء من التطرف الذي يعمي الألباب عن رؤية الصالح و المفيد في كل وافد جديد .
يضفي على هذه النظرة قيمة و قوة تلك الفوضى الثقافية و الاجتماعية التي أحدثتها الثقافة الوافدة على المجتمع العربي و التي فرضت نفسها كما يعترف بذلك علماء الاجتماع كثقافة للمجتمعات المسيطرة و لم تفرض نفسها البتة كثقافة مسيطرة في حد ذاتها ، هذه الثقافة التي أغرى بريقها مثقفينا فراحوا يلاحقون مصادر الإشعاع فيها دونما جدوى في تحقيق المراد أثرت كذلك في روح مؤسساتنا الثقافية و التربوية و الإعلامية ..... فلم تعد تنتج لنا قيما مدروسة وفق إستراتيجية محددة و إنما انحصر دورها في إعادة إنتاج قيم الثقافة المهيمنة في إحالة رمزية إلى أن تقدم المجتمع و مؤسساته إنما هو رهن باتباع ثقافة المجتمعات المسيطرة .
لكن الأدهى و الأمر لدى هذه المؤسسات أن تقليدها لثقافة المجتمعات المسيطرة يقتصر فقط على الجوانب الشكلية منها ساعية بذلك إلى إضفاء طابع الفلكلور على كل تقليد يوسم بأنه تجديد و إضافة و مواكبة و عصرنة ، فدون ثقافة العري التي تغزو مجتمعاتنا و ما تلقيه من ظلال على السنما و المسرح و التلفزيون و المدرسة و انخراطنا فيها كوجه من أوجه الاغتراب ، نجد ثقافة أخرى تركز أقدامها في تقليد المناهج و البرامج و الأنماط المتطورة في شتى المجالات و التي يتم استيرادها في شكلها الجاهز لفرض تطبيقها و اختصار الاختبارات المتكررة و القفز على المنهج العلمي القائم على المحاولة و الخطأ و هو لعمري اغتراب فاضح في ثقافة الآخر في شكلها السلبي كما أنه اغتراب صارخ عن فهم الواقع المحلي و محاولة تطبيق منتجات علمية و منهجية أفرزتها سيرورة واقع آخر له خصائصه الاجتماعية و الثقافية دونما فهم و تمحيص للواقع المحلي الذي يحتاج إلى نظريات و مفاهيم و مناهج على مقاسه الخاص بعد مراعاة لطبيعة المجتمع الذي ينتمي إليه هذا الواقع و تاريخه وثقافته الوطنية والقومية.
إن من أخطر أنواع الاغتراب أن يغترب المرء عن تاريخه فلا يعود لهذا التاريخ مفعوله الكافي لخلق الشهامة و إذكاء روح الفتوة في الإنسان العربي و كذلك عناصر الثقافة الوطنية الأخرى من دين و لغة و غيرها من العناصر التي يؤدي تفعيلها إلى لم الشمل العربي و إعادة التوازن للعقل العربي الذي يغرق في شتى متاهات الفكر و يغيب و يغترب يوما بعد يوم عن جوهر الرسالة المنوطة به على مستوى الوطن و الدين و المجتمع و الذات .
لكن هذه النظرة غير مؤكدة في صحتها و صدق منطقها لدى من ينشدون النهوض بالوسائل ذاتها التي نهضت بها مجتمعات أخرى تصنف اليوم في خانة التقدم ، لقد تقدمت هذه المجتمعات حينما تعاطت مع واقعها و تراثها بكيفية موضوعية بعيدة عن التقديس بينما اغتربنا نحن في تراثنا و رحنا ننشده باستحضاره و إعادة إنتاجه جاعلين منه هدفا في ذاته دون أن نحاول فهمه و إعادة تركيبه من جديد وفق " متطلبات العصر " .
لكن المشكلة الأكبر أننا نختلف في تفسير صيغة " متطلبات العصر " ، العصر كما هي جارية عليه الأحوال في وقتنا الحاضر كزمان وعالمنا المعاصر كمكان ، أم العصر الذي نصنعه نحن و نريده ، العصر الذي نبارك فيه الثقافة السائدة كثقافة للمجتمعات المسيطرة أم العصر الذي نريده خالصا و مستخلصا من مرجعية واضحة نجد لها أصلا في سيرورة مجتمعاتنا التاريخية .
ربما نجد هذا الاختلاف و التصادم في تحديد هذه المفاهيم التي يتحدد على أثرها مفهوم الاغتراب و مدلوله ماثلا أمامنا في كثير من الكتابات الفلسفية و السسيولوجية ، فحينما نقرأ لكتاب مرموقين من أمثال محمد أركون و نصر حامد أبو زيد في مسالة الاجتهاد الديني نجدهم يحاولون التحرر من المناهج القديمة في فهم القرآن داعين إلى اعتباره نصا بشريا حين الدراسة " العلمية " لأنه تجرد من صفة الألوهية بمجرد نزوله إلى الأرض داعيا( القرآن) البشر إلى تدبره و إعمال النظر فيه ، و هي محاولة تسوي بين التعاطي مع النص الديني ( القرآن) - مع أنه يتضمن المحكم من الآيات ( الحدود و الأحكام )- و باقي النصوص البشرية في الثقافة الإسلامية .
هذه النظرة ترى في مخالفيها أنهم اغتربوا عن جوهر ما يجب أن يكون حيث تطورت المناهج التي تحكم تفسير النصوص في مجال العلوم الإنسانية و غرقوا في تقليد المناهج القديمة التي تعد حكرا على جيل مضى حاله و انقضى عهده ، بينما عين الاغتراب لدى من يتمسكون بقدسية القرآن أن يقفز هؤلاء على الاجتهادات الأولى و خاصة تلك التي تتعلق بالقرآن و الاجتهاد فيه حيث له ضوابطه التي أرسى قواعدها المقربون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من الصحابة الكرام باعتبارهم الأقرب فهما إذ كان الرسول بين ظهرانيهم موجها و مرشدا و دالا لهم على كثير من مسائل الدين .
إشكالية " الاغتراب" و" الاقتراب " هذه التي تنتجها مختلف السجالات النظرية و التي هي في أساسها مجرد اختلافات أيديولوجية في تحديد سند الاغتراب تفقد بريقها حينما ننظر إليها بعين الواقع فلا نعود نرى في الصوفي الذي يتدرج في مدارج السالكين إلى درجة " الفناء " أنه يغيب عن ذاته و يغترب عنها لأنه يمكننا النظر من زاوية أخرى إلى هذا الصوفي كعابد يعمل على تحقيق ذاته بقدر إخلاصه و تفانيه في عبادة الله .
إن أكبر اغتراب يعانيه الإنسان العربي هو اغترابه عن فهم الواقع و معرفة الآليات التي تحكم هذا الواقع لأن فهم الواقع في دقائقه و شموليته في سياق المعطى التاريخي العام هي التي تقرب بين الأفهام و الرؤى نحو الاتفاق حول سند واضح للاغتراب ، كي نجد بذلك جوابا لسؤال : اغتراب عن ماذا ؟ و اغتراب في ماذا ؟ .
نشر المقال في النسخة الإلكترونية لجريدة القدس العربي اللندنية يوم 10/10/2009 والرابط هو:http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=2009\10\10-10\09qpt13.htm&storytitle=ffالاغتراب%20الثقافي%20للإنسان%20العربيfff%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20%20&storytitleb=%20سفيان%20ميمون%20&storytitlec=
كما نشر أيضا بالملحق الثقافي لجريدة الجزائر نيوز ( الأثر) يوم 27/10/2009 - عدد الجريدة :1763- وهو متوفر على الرابط :http://www.djazairnews.info/index.php?option=com_content&view=article&id=5484:2009-10-26-15-34-10&catid=37:2009-03-26-18-28-26&Itemid=56

الخميس، 17 سبتمبر 2009

الأستاذ الجامعي .......مشكلة الجامعة!!

سفيان ميمون

وقع في يدي مقال لأحد الأساتذة نشر في جريدة الشروق اليومي ليوم 20/11/2008 خصصه صاحبه للحديث عن أستاذ الجامعة معتبرا إياه سببا رئيسا وعلة أولى لعلل الجامعة ، فأردت أن أعزز ماأتفق فيه معه وأنكر ما حقه الإنكار .
يبدو واضحا أن الجامعة الجزائرية تعيش أزمة كبيرة وتتخبط في مشاكل عويصة إداريا ،بيداغوجيا، علميا......، لكن هذه المشاكل والأزمات لايتحمل وزرها الأستاذ وحده ، كما لا يمكن أن نلمس الحل عنده دون سواه من أطراف الجامعة والمجتمع على السواء.
تتشكل الجامعة والمجتمع كلاهما –كما يعلم ذلك الجميع – من أطراف عديدة يختص كل طرف بجانب من الجوانب ، فالإدارة للتسيير والأستاذ للتعليم والنقابة لتبليغ المطالب وهذا هو أصل وجود هذه الأطراف المختلفة ، فإذا نحن أرجعنا سبب تخلف الجامعة ومشكلاتها إلى الأستاذ وحده فكيف نحكم على إدارة الجامعة؟وكيف نحكم على المنظمات الطلابية داخل الجامعة ؟ وكيف نحكم على كل الجزئيات الأخرى دون الأستاذ؟ هل هي بخير ؟ هل يكفي أن يكون الأستاذ بخير في أداء وظيفته وتبليغ رسالته لتكون الجامعة كلها بخير؟
لا أظن أن هذا الطرح صحيح من الناحية المنطقية إلا إذا عملنا على البحث عن رئيس لسفينة النجدة وجعلناه الأستاذ ذاته من مبدأ الوعي الذي يضمه والمعرفة التي يحيط بها ،ولكن هذا الأستاذ هو صنيع لظروف جامعية ومجتمعية قبل أن يكون صانعا لها ، وعليه فإن منصب الرئاسة قد يخونه أو أن يتقاسمه في أحسن الأحوال مع جوانب أخرى من جوانب الجامعة لها نفس القدر في صناعة الوضع الجامعي على نحو محدد.
صدق الرؤية وموضوعية الطرح تقتضي أن يغطي الناظر إلى الجامعة جميع جزئياتها بالتدقيق والتحقيق فلا يقصر نظره على جزئية بعينها لمجرد تقصير لحظه في هذه الجزئية أوشعور بالإحباط أو غيرة على رسالة الأستاذ المهدرة ودوره الضائع، وأحب هنا أن أضرب مثالا من واقع الجامعة الجزائرية لنرى حدود المسؤولية التي يتحملها الأستاذ، هذا المثال يعرفه –وبكل مرارة – العارفون بخبايا الجامعة ، عندما تنظم هذه الأخيرة مسابقات للتوظيف فتقع ثمة تلاعبات في اختيار المترشحين، وحينما تنظم مسابقات الماجستير فيظفر بعدد لا بأس به من المناصب من ليس لهم سابق معرفة بالتخصص الذي التحقوا به ،بل إن بعضهم من الذين التحقوا بتخصص في العلوم الإنسانية مثلا ليس لهم عهد بهذا الصنف من العلوم ، فهل نحمل الأستاذ وحده المسؤولية ؟ أم أن كل جزئيات الجامعة وأطرافها ذات صلة بهذا الوضع العفن؟ هل نحمل الأستاذ كعضو في اللجنة العلمية المقيمة لعمل المترشحين ؟ أم نحمل الإدارة التي في يدها أوراق المترشحين ؟ أو نحمل منظمات الطلبة التي تملك أوراقا للضغط على الإدارة وإجبارها على قبول مترشحيها ضمن الفائزين بالمناصب وإن لم يكونوا مؤهلين لشغل ذلك المنصب ؟ الكل شركاؤ في هذا الواقع المزري الذي تعيشه الجامعة الجزائرية،ويحز في نفسي هنا القول أن عددا معتبرا من الذين التحقوا بالتدريس في الجامعة يعدمون فعلا واستحقاقا الشهادات التي منحت لهم وهم من هؤلاء الذين لم يدرسوا التخصص الذي يدرسونه ، فكيف يكون أستاذ الغد –أعني الطالب – الذي يأخد العلم في تخصص معين عن أستاذ ليس له صلة بهذا التخصص .
هذا هو الواقع الذي جعل الجامعة والمجتمع يركنان إلى أسفل دوما ويزيد هذا الواقع تعفنا وانحطاطا تغطيتنا على هذه الوقائع والمحافظة عليها لأسباب ومصالح خاصة .
إن النظرة الشاملة للأمور وحدها الكفيلة بتشخيص الوضع ،ووضع مايلزم لتجاوز هذا الوضع .

السبت، 1 أغسطس 2009

الثقافة بين " الرسالة " و "التحرير".

سفيان ميمون
" الثقافة هي ذلك الكل المعقد " هكذا بدأ تايلور تعريفه للثقافة وهو- فيما أعلم – أول تعريف

أنثرو بولوجي لها ، فهي عنده وعاء شامل لكل فاعلية إنسانية من عرف ودين ولغة وكل ما تجري ممارسته في حياة الناس اليومية .
لقد وعى دارسوا الثقافة أهميتها في نقل القيم على سبيل رسالة يؤديها المؤمنون بهذه الأخيرة كأساس لأية نهضة ، وهم بهذا إنما يعكفون على تحديد دورهم الاجتماعي والثقافي ، إنه دور مقدس ونبيل ، الحرص على نوع من القيم وإيجاد مقومات للنهوض أو المحافظة على المجتمع من أي انسلاخ وانحلال محتمل ، ببساطة هذه المهمة التي يضطلع بها كثير من مثقفينا نعتت ومازالت تنعت لدى مؤيديهم بالمحافظة على الموروث الحضاري وتبليغ الرسالة الحضارية للأمة ، كما وصفها معارضوهم بمهمة حراسة القيم وممارسة دور الوصاية على الفكر والثقافة بينما هي في غنى عن كل وصاية ، إنها شيء حي متجدد يفرز قيما متجددة باستمرار مثلما تقتضيه الحال وترسم معالمه الأيام .
فمشكلة الثقافة إذا في إحدى زواياها تكمن في وقوعها بين شقين : شق الرسالة وهو تحديد دور لها لا يتعدى نقل قيم معينة والمحافظة على أسلوب محدد في الحياة ترسم كثيرا من جوانبه العناصر الثقافية التي اتخذت أشكالا معينة في الماضي كالعادات وأنماط التفكير وطرق الوعي بالقضايا الدينية أو القضايا التي يكون للدين موقف منها، وشق التحرير أي تحرير الذات الثقافية من عبء ماضوي وإعادة بناء الذات انطلاقا مما أنتجه العصر من قيم حديثة كانت لدى كثير من الأمم والشعوب قواعد متينة للبناء والتشييد .
هذا المشهد الذي يرسمه واقع الثقافة وتبرزه الممارسات الثقافية الراهنة يوحي بأن ممارسة الثقافة كرسالة إنما هي إيديولوجيا مجرد إيديولوجيا يحاول القابعون وراءها تعميم تفاصيلها وترسيخ أجزائها ، بينما ممارستها ضمن قالب " تحريري " هو بعد عن الأيديولوجيا وتحرر من سلطة المقدسات " اللغة والدين والعادات .." وتحكيم للعقل ، لكن أي عقل ؟ إنه العقل العلمي الذي أنتج قيم التنوير وصنع الحداثة بمفهومها العام ، لكأننا أمام سجنين للفكر متشابهين متماثلين : سجن الماضي بقيمه وأنماطه ، وسجن الحاضر بمعطياته ومفرزاته !!
يتحدث المتحدثون عن الرسالة ويصفونها بالنبالة فمتى يصدق عليها هذا الوصف ؟ الواضح أن نبل الرسالة متصل بنبل القيم التي تنقلها هذه الرسالة ، ونبل القيم متصل بدوره بطبيعة المصدر الذي تنقل عنه هذه القيم ، فحينما يكون الدين الإسلامي مصدرا تنقل عنه قيم على سبيل الرسالة من جيل إلى جيل أو من جماعة إنسانية إلى أخرى تكون هذه القيم ذات شأن على مستوى التداول الاجتماعي وتمنح المكانة العلية في المجتمع ، فلا أحد ينكر قيمة القيم التي أتى بها الإسلام إذ نبلها من نبله وشأنها من شأنه ، وهو أمر متفق عليه اجتماعيا لدى العامة من الناس كما لدى النخبة أيضا .
إن القيم التي تنقل على سبيل الرسالة تتخطى الدين كمصدر إلى مصادر أخرى أوسع وأرحب منها التاريخ والممارسات الاجتماعية التي دأب الناس عليها من عادات وتقاليد وقيم القبيلة والوطن والفئة ...، هذا النقل يغذيه اعتقاد سائد أن استمرار الأمة وإعادة بعثها لن يكون بغير الاستناد إلى قيم الأمة ذاتها وأن الخوف كل الخوف في استبدال هذه القيم بقيم أخرى دخيلة يكون حالها كحال من يغرس غرسا في تربة عقيمة ،اعتقاد صائب وخوف مشروع فلم اعتراض طريق هؤلاء القوم إذا ؟! بينما هم يعملون على إحياء الأمة بإحياء قيمها ، أوليسوا جديرين بالمساندة ؟ أما على المجتمع أن يمد لهم يد المساعدة ؟ الأمر ليس بهذه البساطة لدى الحداثيين ، إنهم ينكرون الركون إلى الوراء بينما يتقدم الزمن وتتفتح البشرية على فضاءات للفكر جديدة وتكتسح مجالات في العلم والمعرفة فلا ينفع بعد هذا ركون إلى وراء ، أو نظر إلى الخلف .
رسالة الحداثي تختلف إذا عن رسالة التراثي ، فبينما يرجع التراثي إلى التراث باحثا عن قيم تلائم أصالته ، يحمل الحداثي هم التحرير أو قل رسالة التحرير ، تحرير المجتمع من قيود التخلف ، ولكن وقبل ذلك تحرير المجتمع من قيود التراث الذي ألقى بثقله على المجتمع وأضحى عبئا ثقيلا يصعب زحزحته خاصة وأن له حراسه الذين يدافعون عنه بكل شراسة نازعين عليه كل سمات القداسة .
لم تكن إشكالية التقليد والتجديد مطروحة كما هي عليه اليوم إلا بعد عصر النهضة إثر الاصطدام الحضاري بين الشرق والغرب حيث فرض الغرب تجربته التقنية والقيمية كمثال حضاري راق أسال لعاب كثير من أبناء الشرق الذين راحوا يقلدون تجربته في مجالات الحياة كافة في الوقت الذي يعيبون التقليد على من خالفهم الرؤية من الذين اتجهوا نحو تقليد القدامى .
التقليد إذا هو السمة البارزة التي اتسم بها الشرق بعد الصدمة الحضارية هذه بينما قصدت نخبه الحداثية التجديد ، ولكن لا جديد ، فقد اختصر الإبداع في استنساخ قيم الحداثة ومحاولة تطبيقها في مجتمعاتنا العربية الإسلامية ، كما ظل التقليد سمة المقلدين من التراثيين ، فسيان بين تراثي مقلد وحداثي مقلد .
لقد كان اتجاه الحداثيين نحو التجربة الغربية بعد عصر النهضة لغرض تحرير ذهنية الإنسان العربي المسلم مما علق بها من شوائب فكرية وقيمية من خلال تبني قيم الغرب المتطور ، ولكن هذا الاتجاه انتهى بهم أيضا إلى ذات التقديس الذي كانوا يذمونه لدى التراثيين .
لعمري كيف نتصور الأمر، بل كيف نصوره ؟ هل هو رسالة ذلك الفعل المتجه نحو الماضي لنقل قيمه أم أنه قيد ؟ هل هو تحرير ذلك الفعل المنبهر بمفرزات الحاضر الآخذ بقيمه أم أنه قيد وأسر ؟ .
لم تكن نزعة التقليد لدى الشرق سوى انعكاس واضح لتلك الصدمة الحضارية التي ولدت عقدة حضارية خطيرة أصبحت ( أي هذه العقدة ) المتحكم الرئيس في سلوك الفاعلين الثقافيين والاجتماعيين ، مثلما تخلف الصدمة لدى الفرد عقدا نفسية يعسر على المختص النفسي معالجتها .
لقد ارتبطت العقدة لدى التراثيين بالخوف على عناصر التراث من عناصر ثقافية وافدة تدعمها تجربة ناجحة في مجال التقنية ، كما ارتبطت لدى الحداثيين بالانبهار الشديد بالقيم التي ركبها الغرب وأدت إلى تطوره وازدهاره ونبذ التشبث بالقيم التي ظل يتداولها الشرق دون أن يجني من ذلك شيئا بل وبقي بفعلها على حالة التخلف قرون عديدة .
العقدة في مبناها ومعناها أسر وقيد ، فكما هي أسر للفرد حيث يتصرف بمقتضاها ويصبح على حالة نفسية تستدعي العلاج فإنها كذلك أسر للجماعة حيث يتحدد بفعلها سلوكها الاجتماعي والثقافي ، ولما كانت النخب الثقافية خلايا مكونة للجماعة فإن سلوك هذه النخب – حداثييها وتراثييها – تتدخل في تحديده هذه العقدة الناتجة عن صدمة الالتقاء بين الشرق والغرب.
ربما يعد تحريرا ذا حدود ذلك الاتجاه الذي يسلكه كثير من مثقفينا نحو التوفيق بين قيم التراث وقيم الحداثة إذ يفتحون مجالهم الثقافي لقيم التراث كما يفتحونه أيضا لقيم المعاصرة ، وتزداد قيمة اتجاههم هذا حينما يؤصلون نظرتهم ثم يطعمونا بما جد في مجال العلم والمعرفة ، وبذلك يعملون على التحرر من سلطة التراث المطلقة كما يعملون في الوقت نفسه على التحرر من سلطة الحداثة ، وهم على هذه الحال إنما يؤدون رسالتهم الحضارية من خلال الانتقاء النوعي للقيم بإلغاء المجال الزماني لها بينما يوفرون لها مجالا مكانيا معايير القبول فيه : التنمية والتطور متصلة بالذات والهوية .
تحرر نلمس نسبيته في ندرة الإبداع الثقافي ووقوع هذه الفئة من النخبة ( فئة التوفيقيين ) موقع الممثل لطرفي الصراع ( التراثي والحداثي ) من جهة وآدائها لوظيفة التخفيف من حدة الصراع بإيجاد حل وسط يؤمن بهذا ويقبل ذاك .
لكن ورغم نسبية التحرير الذي يمكن أن تجنيه الثقافة من اتجاه هذه الفئة لأن طرحها فيه شيء من السطحية والبساطة فإن مجرد القبول الذي يلغي الرفض هو اتجاه فعلي نحو التحرر من سلطة الشيء ، والشيء هنا هو قيم ثقافة ما أصيلة كانت أم معاصرة .
في العرف الثقافي نجد الجواب على سؤال: إلام تستند الرسالة ؟ ومم يكون التحرير ؟ ذا بداهة ووضوح، فالرسالة هي الأمانة في نقل القيم والتحرير هدم لتلك القيم، وذلك حينما تكون حال الثقافة حال صراع بين تياري الأصالة والمعاصرة ، ولكن يمكن لنا أن نتمثل تيارا واحدا يجمع بين الرسالة والتحرير على الأقل في تصوره هو ، فالتراثي الذي ينقل قيما دأب عيها أجداده يرى أنها المخلص والمحرر للجماعة من جملة القيود التي أفرزتها سيرورة الحياة الاجتماعية ، وكذلك الحداثي الذي يحاول نقل قيم الغرب على سبيل واجب اجتماعي ورسالة حياتية يرى في هذه القيم السبيل إلى التحرر الاجتماعي والثقافي ، فالرسالة والتحرير يمكن أن يكونا على صف واحد لدى فريق واحد .
لكن اعتقاد الجمع بين الرسالة والتحرير يأسر جماعات النخبة في وهم الحقيقة حيث يعتبر كل فريق أنه ينقل الحقيقة إذ ينقل نوعا من القيم ويعمل على التحرير من ذات المنطلق بمحاولة زحزحة قيم لصالح قيم " الحقيقة " هذه ، وهنا يبدو لنا أن الرسالة بدءا هي تحرير لقيم معينة بمحاولة تحريكها نحو المكان الذي " يجب " أن تشغله ، كما أن التحرير في ذاته رسالة يحملها الحالمون بالتغيير، المتطلعون نحو الأفضل في الثقافة ، الأفضل في الحياة .
يبدو إذا أن ثمة إمكانية للتآلف بين آداء الرسالة الحضارية وممارسة التحرير الحضاري لدى فئة بعينها من النخبة بعدما سلمنا تفكيرنا ووجهنا نظرنا لعلاقة الإلغاء المتبادل بين الرسالة والتحرير لدى نخبنا الفكرية والثقافية : إلغاء الرسالة للتحرير وإلغاء التحرير للرسالة .
إن عمليات الإلغاء والقبول والائتلاف والاختلاف عمليات ثقافية وفكرية لا يمكن إلغاؤها فهي ضرورة اجتماعية وثقافية لها فعلها الإيجابي أو السلبي في توجيه المجتمع والثقافة ، لذلك كان حريا بنا توجيه هذه العمليات بوعي ودراية فنقبل ونرفض ونختلف ونأتلف ونلغي ونتجاوز ونحلل و نركب وفقا لهذا الوعي الذي يضع نصب عينيه المجال الثقافي العام دونما تمييز بين ماض وحاضر أو بين أصالة ومعاصرة ، ولكن يأخد الثمين فيثمنه ويترك الرديء ويزدريه ، وبهذا فقط نستطيع أن نرسم خطا للانطلاق نحو التقدم ، فليس التقدم كنزا نحفر عليه في الماضي ولا هو هبة تمنحنا أياها الحداثة وقيمها ، وليست هذه نظرة توفيقية بالمعنى الذي سبق ، ولكنها نظرة تلغي الإلغاء الثقافي دون أن تقف عند هذا الحد بل تدعو إلى تحريك أدوات الإبداع الثقافي والفكري من نقد وتركيب وتفكيك وبناء وتجاوز .....، وبذلك وحده يكون للرسالة معناها كما يكون للتحرير أيضا معناه .
نشر المقال بجريدة القدس العربي اللندنية يوم 14/07/2009 عدد6254 وهومتوفر على الرابط :http://www.alquds.co.uk/archives/2009/07/07-13/qad.pdf

علاقة الهوية بالدين لدى النخبة العلمانية

سفيان ميمون
ثمة اختلاف بين في النظر إلى الهوية وارتباطها بالدين بين المشرق والمغرب، نتيجة التركيبة الاجتماعية والدينية التي تميز أقطار الوطن العربي، فسمة المشرق العربي تعدد واختلاف الطوائف الدينية في مجتمعاته ، لذلك نجد اختلافا واضحا في التصورات والرؤى حول الهوية ، بل ونجد صراعا ثقافيا وسعيا أيديولوجيا لترسيخ تصور ما عن هوية مجتمع بذاته ، خذ لذلك مثلا سعي القوميين العرب لتسويق تصور عن الهوية قائم على الوطن واللغة بعيد عن الدين ، يقابل هذا حرص على إثبات الدين كعنصر أساس من عناصر الهوية لدى الإسلاميين ، وهو واقع مبرر في مجتمعات متمايزة في خصوصياتها الدينية ، وعلى العكس من ذلك نجد في مجتمعات المغرب العربي انسجاما كبيرا في الخطاب الثقافي حول علاقة الهوية بالدين ، وإن كانت العلاقة بين الهوية وعناصر أخرى يشوبها كثير من التوتر على غرار اللغة والتاريخ نتيجة التمايز العرقي الذي يمثله عنصرا العرب والبربر، انسجام واضح في الخطاب الثقافي بين مختلف فئات النخبة المغاربية والجزائرية تحديدا – إسلامييها وعلمانييها – حول اعتبار الدين عنصرا من عناصر الهوية ،فإذا كان تصور الإسلاميين للهوية واضحا ومحسوما مذ اختاروا اتجاههم الفكري والديني في الوقت نفسه بأن الدين ركن أساس في هوية الأمة ، فإن الذي يدعو إلى التأمل والسؤال هو اتجاه العلمانيين إلى إنتاج ذات الخطاب حيث الدين أيضا مكون أساس للهوية الجماعية ، فهل يتماشى هذا الخطاب مع حقيقة التصور العلماني للمجتمع ؟ وهل يمكن للدين أن يكون حاضرا في مجتمع يجب أن يفصل عن الدين ؟.
قبل هذا لا بد من الرجوع إلى الممارسة العلمانية التي لا تثبت – ولا شك- على صيغة واحدة ، إنما هي أكثر من شكل ، شكلان على ما يبدو : علمانية متطرفة تلغي الدين وتقصيه وتضع الحواجز أمامه كي لا يمر إلى المجتمع بل يبقى حبيس الشخص لا يتعداه ، وهي علمانوية صراعية بتعبير محمد أركون ، تقابلها علمانية تقبل الدين كتراث خصب للدراسة والتأويل العقلاني ، وهذا النوع من العلمانية هو الذي يركز عليه كثير من مفكرينا ، لكن قبول هذه الفئة من العلمانيين بالدين لا يعني تجاوزه حدود الشخص وإحاطته بهالة من القداسة على المستوى الاجتماعي، كلا بل إن العلمانية لا تعرف للدين قداسة وإلا لما كان ثمة قدرة على الدراسة العلمية لنصوصه ، ولما كانت هناك حرية في تدبر محتويات هذه النصوص .
وتنظر هذه الفئة من العلمانيين إلى نصوص الدين الإسلامي وعلى رأسها القرآن كنص أول على أنه نص بشري وليس نصا إلهيا لاعتبارات الفهم والتأويل والتفسير وهي صفات بشرية تتجه من البشر إلى النص القرآني ، فهو بهذا اتجاه لإقرار فلسفة مايريده البشر من هذا النص وليس مايريده النص من هؤلاء البشر ، إنها تعمل على أنسنة الحياة الاجتماعية من خلال تغيير أماكن السلطة بين العقل والنص الديني حيث السلطة للعقل أي للإنسان.
فخطاب النخبة العلمانية عن علاقة الدين بالهوية في أحد جوانبه – وأنا أتحدث هنا عن النخبة الجزائرية والمغاربية عموما – هو خطاب ائتلاف وتلازم : الهوية تقوم على الدين والدين مكون أساس من مكونات الهوية، لكنه خطاب منفعي على مايبدو ، فرضته حتمية المحافظة على البقاء ، وأدى إليه الخوف من الرفض الاجتماعي ، حيث المجتمع لا يقدس من لا يقدس مقدسه ، بل يمقته ولا يصغي له في قول ، خطاب غير منسجم مع ذاته رغم أنه يبدو مؤتلفا مع خطابات أخرى في حقل أيديولوجي مختلف ومتنوع ، فبينما تدعو العلمانية إلى حصر الدين في حدود الشخص وإبطال تطبيق الحدود والأحكام التي جاء بها النص الديني – القرآن – بداعي الحرية الشخصية كعنوان عن إبعاد الدين عن المجتمع ، نجدها تصر في خطاباتها على أن الدين من مكونات الهوية الثقافية للأمة ، إنه تناقض واضح وصريح لأن الدين هنا لن يكون سوى مكون من مكونات الهوية الفردية أو الشخصية بينما هم يتحدثون عن الهوية الجماعية . قد يكون من الضروري أن نفهم أن نخبنا العلمانية تنظر إلى الدين الإسلامي كمرادف للثقافة الإسلامية ،بينما هو مختلف عنها لأننا إذا نظرنا إلى الدين وجدناه ملزما في حدوده وأحكامه عكس الثقافة التي تتسم بالمرونة وتقبل الأخذ والرد وفق الحاجة ،فالثقافة الإسلامية يمكن أن تكون أسا من أسس الهوية لدى العلمانيين على خلاف الدين الذي لايمكنه ذلك لأنه مقصى في الواقع من خلال تعطيل النصوص التي تتضمن الحدود والأحكام، لربما هو نوع من التقية الثقافية والفكرية حيال المجتمع هذا الذي تسوق له خطابات نخبنا العلمانية .
نشر المقال بالملحق الثقافي لجريدة الجزائر نيوزيوم09/06/2009 -عدد الملحق- 176 الرابط غير متوفر.

" نحو جامعة وطنية "

سفيان ميمون

" نحو جامعة وطنية " عنوان مقال كتب عام ثلاثة و ثمانين و تسعمائة و ألف و كان كاتبه واحدا من أعلام الجزائر البارزين في مجال التاريخ و الثقافة : إنه الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله ، كتب المقال و أودعه بين دفتي كتابه " أفكار جامحة " الذي يضم مقالات كثيرة نشرت هنا و هناك .
لم تكن إحدى مقالات الكتاب لتشد نظري – رغم قيمتها الكبيرة – كما شدتني أفكار هذا المقال و عنوانه ، لم أشعر أبدا أن هذا انتقاء مقصود ، بل عرفت لتوي أن الأمر يتعلق بتلك العلاقة الكامنة التي تربط الذات بالواقع ، حتى إذا وقعت العين على صورة هذه العلاقة مدبجة في مقال ، أو مجسمة في صورة من الصور ارتجت الذات و اهتزت و بدا لها و كأن كاتب المقال أو مصور اللوحة إنما فعل ذلك لإشفاء غليلها و تلبية فضولها ليس إلا ......
يقين الدكتور سعد الله أن " الجامعة مؤسسة وطنية قبل أن تكون مؤسسة أكاديمية ، وباعتبارها مؤسسة وطنية يفترض فيها أن توحد و لا تفرق و أن تجمع و لا تشتت " كان هذا الافتراض و التطلع لجامعة وطنية مؤسسا على جملة من الأحداث التي ميزت جامعة الثمانينات و أحدثت هزات عنيفة في بناء الجامعة كاد يهوي بها في مستنقعات خطيرة تتصل بالقبلية ، ومراعاة المصالح الضيقة للزمر التي بيدها دوائر القرار ، و تغذية المشاعر العرقية التي تطورت إلى دعوات انفصالية .
لم يستسغ الدكتور سعد الله غياب استراتيجية جامعية تبقي الجامعة مركزا جامعا لفئات المجتمع و أطيافه المختلفة ، فراح يسرد على أحد المسؤولين الكبار الذي استدعاه ليعرف رأيه في الأحداث التي تعرفها الجامعة آنذاك آراءه الحكيمة ، و كيف لا يحظى بذلك و هو الأستاذ الممارس صاحب الخبرة في الميدان ، لقد كان يرى بصراحة بعد أن تعددت الجامعات ومراكزها ، و انتشرت في عديد المناطق ، أن الحل يكمن في تخصص كل جامعة من الجامعات الجديدة بتخصص تعدمه جامعة غيرها حتى تكون قبلة لكل الطلاب من جميع مناطق الوطن ، فلا يكون هناك تقوقع لطلاب و أساتذة منطقة بعينها على جامعة منطقتهم ، و في هذا سبيل معبد للانفتاح الثقافي الذي يقمع كل انغلاق و تعصب و يجتث كل دعوة انفصالية متطرفة قبل أن تولد ، ليس هذا فحسب بل لقد كان الدكتور سعد الله يرى في صرامة التسيير وسيلة للحفاظ على النظام العام تماما كما هو حال الثكنة العسكرية التي تخضع لنظام صارم لا يجب المحيد عنه ، و لإحداث توازن ثقافي لابد من التقاء إطارات مختلفة اللغة من أجل إلغاء الهيمنة الثقافية التي يمكن أن تنتج عن الخلفية الثقافية للغة الواحدة باعتبارها وعاء ثقافيا و فكريا ، و حاملة لنوع من الثقافة يتماهى مع شكل و طبيعة هذه اللغة ، و طبعا يستثني الدكتور سعد الله اللغة الوطنية باعتبارها عامل جمع و إدماج في بوتقة الوطنية و عنصرا رئيسا من عناصرها .
كما يرى ضرورة إحداث حركية جامعية بين الطلاب و الأساتذة فيسجل طالب الدراسات العليا مثلا في غير جامعته التي حصل فيها على شهادة التدرج ، و لا يوظف الأستاذ في الجامعة التي تخرج منها إلا بعد مدة من الزمن استبعادا للعلاقات الشخصية التي يمكن لها أن تحل محل مبدأ الكفاءة الذي يعد عماد الجامعات القوية المحترمة .
الآن و بعد مضي ما يقارب ثلاثة عقود ماذا تغير في الجامعة الجزائرية ؟ هل وجدت الأسباب التي أدت إلى الاضطرابات الجامعية و التي تحولت إلى أزمة ثقافية و سياسية و وطنية طريقها إلى المعالجة أم أنها مازالت قائمة ؟ هل تدرجنا في تحقيق شيء من مشروع الوطنية أم أن اهتمامنا بالوطنية لم يعد له معنى ؟
الناظر إلى الجامعة الجزائرية اليوم يرى حجم التغير الذي طال الهياكل الجامعية حيث اتسعت رقعتها و ازداد عددها و كدنا نرى لكل قرية جامعة كما تضاعف عدد الطلاب و صرنا نضرب المثل عن أنفسنا بهذا التطور غير المسبوق في عدد الرقاب التي تملأ الساحات الجامعية صانعة بذلك ديكورا جميلا نادرا ، إنها لعبة الكم و الكيف التي يتقنها مسؤولوا الجامعة، لعبة التفاخر بالكم و العدد من أجل التغطية على رداءة الكيف و هشاشته . مما تغير أيضا توفر الجامعة على عدد لا يستهان به من المنظمات الطلابية و الجمعيات الثقافية و الرياضية مما يوحي بأن مجتمع الجامعة مؤطر من خلال ممثلي الطلبة و الأساتذة الذين يملكون سندا قانونيا توفره لهم هذه المنظمات و الجمعيات و هو الأمر الذي يساعد على تحقيق وطنية جامعية من خلال التفاعل البناء الذي تضمنه النشاطات الثقافية و الرياضية وحتى الاحتجاجات الرامية إلى الحفاظ على حق الطالب و الأستاذ ، لكن هذا الأمر – للأسف – مازال مؤجلا إلى زمن تنجلي فيه رواسب القبلية الموروثة عن جامعة الثمانينات و عقلية المصلحة الشخصية التي ازدادت ترسخا في وعي مجتمع الجامعة ، فعن أي وطنية نتحدث و واقع المنظمات الطلابية ينبئنا يوما بعد يوم أنها تحولت إلى هيئات للبزنسة و الربح السريع ، طلاب لا تتوفر فيهم شروط القيادة و لا مؤهلات الثقافة قابعون على رأس منظمات و جمعيات الطلبة سنين عديدة مكونين دوائر مغلقة تحتلها زمر معينة ، ثم عن أي وطنية نتحدث و بناء كثير من منظمات الطلبة و جمعياتهم هو بناء جغرافي حتى لا نقول أنه بناء عرقي ، فكثير من الطلبة الذين يلجون الجامعة لأول مرة يجدون أمامهم هذه المنظمات و الجمعيات قوالب جاهزة تترصدهم آملة في ضمهم إلى صفوفها من أجل تقوية الساعد و زيادة النفوذ ، مستخدمة في ذلك العلاقات الشخصية و الانتماء الجهوي لمنطقة من المناطق ، و هكذا نكون أمام منظمات وجمعيات ذات طابع جهوي ، و بتفكير و ثقافة الجهة التي ينتمي إليها منتسبوهذه المنظمات والجمعيات ، فماذا ننتظر من هذا ؟ هل ننتظر تفاعلا بناء يثري الثقافة و يعزز الوطنية لدى طلبتنا ، إطارات الغد ؟ كلا إن الأمر في غاية الخطورة ، إن أخطر حرب هي حرب الكل ضد الكل ، حرب الثقافات الجهوية الممتزجة بأيديولوجيات مبرمجة ، و نزعات سياسية مغلفة، فهل بقي ثمة حديث عن وطنية الجامعة ؟!
ثم انظر في الجانب النقابي الاحتجاجي لعمل منظمات الطلبة هل تجد لها سعيا في مجال الثقافة و الأخلاق مثلا ؟ لا أحد ينكر التدهور الحاصل في هذين المستويين ، لكن تركيز الاحتجاجات ينصب فقط على الجانب الاجتماعي ( الإيواء و النقل و المنحة ) لأنه الجانب الأكثر استقطابا لجموع الطلبة حيث تعمل الزمر النافذة في هذه المنظمات على استغلالهم لأغراض سياسية و أيديولوجية و منفعية .
إننا اليوم كما بالأمس في حاجة ماسة إلى استراتيجية جامعية تضع وطنية الجامعة في مقدمة اهتماماتها قبل أي تدبير آخر ، فلا أكاديمية و لا علمية بدون وطنية ، يشهد على هذا سيطرة بعض الزمر على كثير من جامعاتنا و مراكزنا الجامعية و تسييرها لمسابقات التوظيف والماجستير بكيفية توافق مزاجها و هواها ، و بالقدر الذي يسمح لها بالمحافظة على الوضع القائم من خلال ضمان استبعاد عناصر لا تكون في متناولها و يمكن لها أن تشكل تهديدا لاستمرار مصالحها .
إنها ذهنية المصلحة التي تلغي الوطن هذه التي تشكل مزاجنا الثقافي العام ، فكم هي حمقاء هذه الذهنية ، كم هم حمقى أولئك الذين ينتجون باستمرار أسباب تخلف الجامعة و المجتمع ، لأن التخلف خطر كاسح يهدد الجميع ، فيا له من وضع جامعي لم يعرف جوهره التغيير نحو الأفضل بينما تغير شكل الجامعة ليعلن عن نفسه حجة لمن يصطادون في الماء العكر .
نشر المقال بالملحق الثقافي لجريدة الجزائر نيوز يوم30/06/2009 -عدد الملحق- 179 وهو متوفر على الرابط:http://djazairnews.info/index.php?option=com_content&view=article&id=482:2009-06-29-17-11-36&catid=37:2009-03-26-18-28-26&Itemid=56

قولبة القيم وفق التغيرات الاجتماعية

سفيان ميمون
نعرف جميعا أن القيم تنقسم بدءا إلى قسمين متقابلين : صالحة وطالحة ، حسنة وقبيحة ، مقبولة ومنبوذة ، ….لكن الحكم عليها يستند دائما إلى أساس ، فما هو هذا الأساس ؟ وهل نحن البشر شركاء فيه ؟ .

إن الأسس التي تستند إليها القيم على اختلافها كثيرة فالمجتمع أساس ، والدين أساس ، وثقافة الطائفة أو العشيرة كذلك ، ولكن المرء الذي ينتمي إلى مجتمع ويدين بدين وينسب إلى طائفة أو عشيرة يحاول دائما أن يوفق بين هذه العوامل جميعها بأن يجد مقاربة صائبة بين قيم كل واحدة من العوامل، فمحاولة التوفيق بين مختلف العوامل وحدها التي تفرز لنا القيم المعيارية التي تضحي الحكم الأساس لكل سلوكاتنا وتصرفاتنا ، ناهيك عن كيفية التفكير و ضبط المنهج القويم لممارسة هذا التفكير.
و ثمة نظرة أخرى ترى أن القيم التي تفرزها مختلف العوامل الموضوعية من اجتماع و ثقافة و دين و عادات ….. لا بد أن تخضع لعملية نقذ دائم ، لإعادة تقييم القيم و الأساس هنا ليس المجتمع و لا العادات و لا حتى الدين ، و لكن العقل الذي يدخل مزاحما هذه العوامل كلها فيمنح السلطة عليها و يصبح حاكما عليها دون أن تمسك قبضتها عليه .
هكذا نجد أنفسنا أمام معيارين للقيم ، معيار موضوعي يمثله المجتمع و الثقافة و الدين …. ، و معيار ذاتي هو العقل ، لكن الانسياق خلف أحد المعيارين فحسب إنما هو تطرف بعينه كتطرف الممجدين للعقل و خصومهم من منكري فضل هذا الأخير في علم الكلام ، أو كتطرف القائلين بإبعاد الدين شريعة و منهاجا و الاحتكام إلى العقل و مناوئيهم من السلفيين المتشددين اليوم ، و هنا يتراءى لنا معيار ثالث بين الذات و الموضوع ، معيار مؤلف من نور العقل كذات و حكمة الدين و هدي المجتمع و الثقافة و العادات كموضوع ، فلا يمكن البتة لرأي راجح أن تقوم له قائمة و هو مؤسس على العقل وحده أو الدين وحده أو ما جرى عليه العرف و التقليد ، لقد رأينا مؤخرا تغييبا للدين كمعيار خلال اللغط الذي دار حول مسألة انتشار الدعارة في الجزائر حينما حاول بعض السادة معالجة الظاهرة قاصدين تحكيم العقل الذي هداهم إلى ضرورة تقنين الظاهرة بفتح بيوت خاصة ترعاها الدولة ، و حجتهم في ذلك هي إبعاد الظاهرة من الوسط الاجتماعي لكن سعيهم هذا إنما هو تأصيل للظاهرة في عمق المجتمع من خلال تشكيل مخيال عام يتعاطى معها في جانبها القانوني و ليس الديني ، و هو بهذا إبعاد لحكمة الدين كمصدر أساس لقياس قيمة الحكم أو الفعل أو الاتجاه ، ليس هذا فحسب بل إن هذا الرأي الذي يستند إلى العقل كمعيار يفقد قيمته بإخضاعه لهذا المعيار ذاته : معيار العقل ، ذلك أن ظاهرة الدعارة لا يمكن حصرها في عدد من المواخير ، فهذه المواخير منتشرة في المجتمع بأسماء شتى ، فنادق ، قاعات عائلية ، ملاهي ………، ورغم هذا نجد الظاهرة منتشرة في الجامعات والحدائق والشوارع وحيثما وليت وجهك فهي أمامك ، فالحال لن تتغير إذا بتقنين بيوت الدعارة أو عدم تقنينها طالما هي موجودة ، ما يهمنا هنا في هذه الظاهرة وفي غيرها هو أساس الحكم وكيفية بنائه انطلاقا من مراعاة جميع مصادر القيم الذاتية منها والموضوعية ، إننا بحاجة إلى إعادة تقييم القيم وفق جميع المصادر التي يمكننا من خلال التوليف بينها أن نصل لانتاج وإعادة انتاج قيم اجتماعية تعبر عنا وعن العصر الذي نعيش فيه، دون الاتكاء على مصدر واحد يكون عاجزا لوحده في ظل المجتمعات الحديثة شديدة التعقيد التي تستدعي المركب والمعقد والمختلف والمؤتلف وتنفي الأحادي والمنغلق .
نشر المقال بالملحق الثقافي لجريدة الجزائر نيوز يوم 21/07/2009 -عدد الملحق- 182 وهو متوفر على الرابط: http://djazairnews.info/index.php?option=com_content&view=article&id=1282:2009-07-20-15-42-01&catid=37:2009-03-26-18-28-26&Itemid=56