سفيان ميمون
ينظر المفكر الجزائري مالك بن نبي إلى الثقافة على أنها ذلك التفاعل الذي يحصل بين عوالم ثلاثة، عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء والتأثير والتأثر حاصل بين هذه العوالم بما يخلق ثقافة أو يحركها في اتجاه معين، والثقافة عنده هي "العلاقة التي تحدد السلوك الاجتماعي لدى الفرد بأسلوب الحياة في المجتمع ، كما تحدد أسلوب الحياة بسلوك الفرد " [1]।
ويبين مالك بن نبي أن أي مجتمع في بدايته لا يتهيأ له أن يشرع في بناء عالم أشيائه، ولكن عالم أفكاره هو الذي يبدأ في التكوين انطلاقا من بوادر تفكير إيديولوجي، ولمعرفة دور الأفكار في ظاهرة التثقيف فإنه من الضروري تحديد الظروف التاريخية و الاجتماعية التي تؤدي دورها فيها، فالنشاط الاجتماعي والثقافي لفكرة ما مرتبط في الواقع ببعض الشروط النفسية الاجتماعية التي بدونها تفقد الفكرة فاعليتها، إن الفكرة عند مالك بن نبي ليست مصدرا للثقافة ولكنها مرتبطة بطبيعة علاقتها بمجموع الشروط النفسية الزمنية التي ينطبع بها مستوى الحضارة، وهو مستوى قد يتغير حسبه بطريقتين : "[2]"
1- عندما يرتفع تعرض له أفكار ليست من بين القوى الجوهرية التي نتجت عنها الحركة التاريخية، فإذا بهذه الأفكار تتقادم ثم تختفي.
2- وعندما يهبط تنقطع صلة بعض الأفكار بالوسط الاجتماعي ذاته أي تنقطع من منابع خلقية وعقلية صدرت عنها فتكسب هذه الأفكار وجودا صناعيا غير تاريخي وبذلك تفقد كل معنى اجتماعي .
وما يمكن تقريره من فلسفة مالك بن نبي حول الثقافة أن هذه الأخيرة هي تعبير حسي عن العلاقة التي تربط الفرد بالعالم المحيط به في جانبه الروحي ، فالإعلان عن موت الفرد ثقافيا يتم بمجرد ابتعاده عن المجال الثقافي الذي يحيط به ، ثم إن ثمة علاقة واضحة بين مجالين يعدان بحق قطبي الثقافة هما الجانب النفسي و الجانب الاجتماعي ، و أن التفاعل بينهما أمر واضح في مواقف السلوك المختلفة ، لقد بين مالك بن نبي هذه العلاقة بمثال من التاريخ الإسلامي عن عمر بن الخطاب الذي خطب في المسلمين حين توليه الخلافة قائلا : " أيها الناس من رأى منكم فيﱠ اعوجاجا فليقومه " فكان الرد من أحد البدو البسطاء " و الله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا " ، يقول مالك بن نبي : " و الواقع أن عمر في قولته تلك كان متجها صوب المجتمع الإسلامي ، و أن الذي أجابه إنما هو ذلك المجتمع على لسان البدوي، وهكذا نرى بطريقة مباشرة العلاقة المتبادلة بين الجانب النفسي والجانب الاجتماعي مجسدة في رجلين كان موقفهما انعكاسا لأسلوب الحياة من ناحية و تعبيرا عن سلوك معين خاص بالمسلم في ذلك العصر من ناحية أخرى ، وفي الوقت ذاته يظهر هذا التشابه في الحدود الروحية للمجتمع حين يرسم داخل هذه الحدود معالم ثقافة محددة، فالخليفة المسلم والراعي المسلم يتصفان بسلوك واحد لأن جدور شخصيتهما تغور في أرض واحدة هي المجال الروحي للثقافة الإسلامية"[3].
ومما يسلم إلى الحكم على الثقافة خيرها وشرها، جميلها وقبيحها مقاييس ذاتية خاصة تسمح بتحديد دور العقل و اتجاهه و تمييز مجتمع معين عن مجتمع آخر و هي بذلك المعنى تحدد المباني الشخصية والاجتماعية في الفرد مما يؤول بها إلى تحديد رقعتها و حدودها ، وما هذه إلا خاصية الثقافة حسب مالك بن نبي ، و يعمل الفرد حسبه على انتقاء المقاييس الذاتية التي تحدد انتماءه إلى نمط ثقافي معين دونما شعور منه و لا وعي و إنما يتلقاها من محيطه الذي يحيا فيه عفوا .
و يبدو أن لمالك بن نبي نظرة شاملة في كيفية إعداد ثقافة معينة فأية ثقافة لا يمكن لها أن تقوم وتنشأ إلا في أحضان البيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد بحيث تنشأ علاقة تفاعلية بينهما (البيئة والفرد) و هو ما عبر عليه مالك بن نبي بأسلوب الحياة عندما وصف البيئة و السلوك الاجتماعي حينما وصف الفرد في حركيته إزاء هذه البيئة ، فالإطار الثقافي الأشمل هو المحدد لأية ثقافة من شأنها أن تتشكل ، و تتشكل معها القيم الثقافية التي تكون نتيجة لهذا الإطار في كليته و ليس نتيجة لجزء منه كالمدرسة مثلا التي يخطئ الكثير في اعتبارها المنتجة لهذه القيم و المحددة للسلوك الفعال ، فالمدرسة تعد عنده عاملا مساعدا من عوامل الثقافة ، و هي وحدها ليس بمقدورها أن تحل مشكلة الثقافة و لكن حلها يكون في إطار ثقافي شامل .
و ما يطبع العلاقة بين قطبي الثقافة عند مالك بن نبي هو " وجود نشاط متبادل بين أسلوب الحياة وبين السلوك بطريقة تجعل واحدها يرمي إلى الاحتفاظ بالآخر في خط مطلبه واقتضائه الخاص، وبعبارة أخرى فإن المجتمع يقتضي سلوكا معينا من الأفراد ، و هؤلاء يقومون برد الفعل عن طريق اقتضائهم الخاص في صورة أسلوب معين للحياة بحيث يتم هذا التبادل الذي يتولى تعديل الإطار الثقافي بطريقة ذاتية في صورة إرغام اجتماعي من ناحية و عملية نقذية من جهة أخرى " [4].
فهدف الثقافة التي تختص بها بيئة معينة هي أن تخلق سلوكا يتبناه الأفراد يكون متوافقا مع خصائصها و ميزاتها بحيث يكون هذا السلوك ملزما و قابلا للرفض و التعديل في الوقت ذاته ، انطلاقا من حركية الإنسان و نشاطه العقلي ، و انطلاقا كذلك من طبيعة العلاقة بين أسلوب الحياة و السلوك الاجتماعي الذي يبرز فيه عنصر التفاعل بشكل واضح ، فكما أن لأسلوب الحياة أن يؤثر في السلوك فإن لهذا الأسلوب أن يتأثر بالسلوك كذلك، ففي تقريره لهذه العلاقة يميز مالك بن نبي بين مجتمعين هما المجتمع البدائي و المجتمع التاريخي مبرزا طبيعة السلوك الذي يمكن أن يفرزه أي من هذين المجتمعين "فعندما يقوم مجتمع بدائي بوضع ( المحرمات ) حول تقاليده وأذواقه و استعمالاته لا يكون المحرم مدعاة للضحك في ذاته ، و لكنه الفراغ الثقافي أو – اللاثقافة – التي يقوم بالدفاع عنها وأعني بهذا مجموعة الأسباب التي ستبقي هذا المجتمع على ما هو عليه من ركود ، أما بالنسبة لمجتمع تاريخي فإن دفاعه عن أسلوب حياته هو دفاع عن شخصيته ،وعن مبدأ إدماج أفراده في نطاقه وتحديد علاقتهم به، بحيث يصبحون بمثابة التعريف به، كما يصبح مجتمعهم بمثابة المعرف لهم، فالإرغام الاجتماعي و الموقف النقدي للفرد :هما المظهران الأساسيان لثقافة معينة في وظيفتها "[5] .
الهوامش:
ينظر المفكر الجزائري مالك بن نبي إلى الثقافة على أنها ذلك التفاعل الذي يحصل بين عوالم ثلاثة، عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء والتأثير والتأثر حاصل بين هذه العوالم بما يخلق ثقافة أو يحركها في اتجاه معين، والثقافة عنده هي "العلاقة التي تحدد السلوك الاجتماعي لدى الفرد بأسلوب الحياة في المجتمع ، كما تحدد أسلوب الحياة بسلوك الفرد " [1]।
ويبين مالك بن نبي أن أي مجتمع في بدايته لا يتهيأ له أن يشرع في بناء عالم أشيائه، ولكن عالم أفكاره هو الذي يبدأ في التكوين انطلاقا من بوادر تفكير إيديولوجي، ولمعرفة دور الأفكار في ظاهرة التثقيف فإنه من الضروري تحديد الظروف التاريخية و الاجتماعية التي تؤدي دورها فيها، فالنشاط الاجتماعي والثقافي لفكرة ما مرتبط في الواقع ببعض الشروط النفسية الاجتماعية التي بدونها تفقد الفكرة فاعليتها، إن الفكرة عند مالك بن نبي ليست مصدرا للثقافة ولكنها مرتبطة بطبيعة علاقتها بمجموع الشروط النفسية الزمنية التي ينطبع بها مستوى الحضارة، وهو مستوى قد يتغير حسبه بطريقتين : "[2]"
1- عندما يرتفع تعرض له أفكار ليست من بين القوى الجوهرية التي نتجت عنها الحركة التاريخية، فإذا بهذه الأفكار تتقادم ثم تختفي.
2- وعندما يهبط تنقطع صلة بعض الأفكار بالوسط الاجتماعي ذاته أي تنقطع من منابع خلقية وعقلية صدرت عنها فتكسب هذه الأفكار وجودا صناعيا غير تاريخي وبذلك تفقد كل معنى اجتماعي .
وما يمكن تقريره من فلسفة مالك بن نبي حول الثقافة أن هذه الأخيرة هي تعبير حسي عن العلاقة التي تربط الفرد بالعالم المحيط به في جانبه الروحي ، فالإعلان عن موت الفرد ثقافيا يتم بمجرد ابتعاده عن المجال الثقافي الذي يحيط به ، ثم إن ثمة علاقة واضحة بين مجالين يعدان بحق قطبي الثقافة هما الجانب النفسي و الجانب الاجتماعي ، و أن التفاعل بينهما أمر واضح في مواقف السلوك المختلفة ، لقد بين مالك بن نبي هذه العلاقة بمثال من التاريخ الإسلامي عن عمر بن الخطاب الذي خطب في المسلمين حين توليه الخلافة قائلا : " أيها الناس من رأى منكم فيﱠ اعوجاجا فليقومه " فكان الرد من أحد البدو البسطاء " و الله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا " ، يقول مالك بن نبي : " و الواقع أن عمر في قولته تلك كان متجها صوب المجتمع الإسلامي ، و أن الذي أجابه إنما هو ذلك المجتمع على لسان البدوي، وهكذا نرى بطريقة مباشرة العلاقة المتبادلة بين الجانب النفسي والجانب الاجتماعي مجسدة في رجلين كان موقفهما انعكاسا لأسلوب الحياة من ناحية و تعبيرا عن سلوك معين خاص بالمسلم في ذلك العصر من ناحية أخرى ، وفي الوقت ذاته يظهر هذا التشابه في الحدود الروحية للمجتمع حين يرسم داخل هذه الحدود معالم ثقافة محددة، فالخليفة المسلم والراعي المسلم يتصفان بسلوك واحد لأن جدور شخصيتهما تغور في أرض واحدة هي المجال الروحي للثقافة الإسلامية"[3].
ومما يسلم إلى الحكم على الثقافة خيرها وشرها، جميلها وقبيحها مقاييس ذاتية خاصة تسمح بتحديد دور العقل و اتجاهه و تمييز مجتمع معين عن مجتمع آخر و هي بذلك المعنى تحدد المباني الشخصية والاجتماعية في الفرد مما يؤول بها إلى تحديد رقعتها و حدودها ، وما هذه إلا خاصية الثقافة حسب مالك بن نبي ، و يعمل الفرد حسبه على انتقاء المقاييس الذاتية التي تحدد انتماءه إلى نمط ثقافي معين دونما شعور منه و لا وعي و إنما يتلقاها من محيطه الذي يحيا فيه عفوا .
و يبدو أن لمالك بن نبي نظرة شاملة في كيفية إعداد ثقافة معينة فأية ثقافة لا يمكن لها أن تقوم وتنشأ إلا في أحضان البيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد بحيث تنشأ علاقة تفاعلية بينهما (البيئة والفرد) و هو ما عبر عليه مالك بن نبي بأسلوب الحياة عندما وصف البيئة و السلوك الاجتماعي حينما وصف الفرد في حركيته إزاء هذه البيئة ، فالإطار الثقافي الأشمل هو المحدد لأية ثقافة من شأنها أن تتشكل ، و تتشكل معها القيم الثقافية التي تكون نتيجة لهذا الإطار في كليته و ليس نتيجة لجزء منه كالمدرسة مثلا التي يخطئ الكثير في اعتبارها المنتجة لهذه القيم و المحددة للسلوك الفعال ، فالمدرسة تعد عنده عاملا مساعدا من عوامل الثقافة ، و هي وحدها ليس بمقدورها أن تحل مشكلة الثقافة و لكن حلها يكون في إطار ثقافي شامل .
و ما يطبع العلاقة بين قطبي الثقافة عند مالك بن نبي هو " وجود نشاط متبادل بين أسلوب الحياة وبين السلوك بطريقة تجعل واحدها يرمي إلى الاحتفاظ بالآخر في خط مطلبه واقتضائه الخاص، وبعبارة أخرى فإن المجتمع يقتضي سلوكا معينا من الأفراد ، و هؤلاء يقومون برد الفعل عن طريق اقتضائهم الخاص في صورة أسلوب معين للحياة بحيث يتم هذا التبادل الذي يتولى تعديل الإطار الثقافي بطريقة ذاتية في صورة إرغام اجتماعي من ناحية و عملية نقذية من جهة أخرى " [4].
فهدف الثقافة التي تختص بها بيئة معينة هي أن تخلق سلوكا يتبناه الأفراد يكون متوافقا مع خصائصها و ميزاتها بحيث يكون هذا السلوك ملزما و قابلا للرفض و التعديل في الوقت ذاته ، انطلاقا من حركية الإنسان و نشاطه العقلي ، و انطلاقا كذلك من طبيعة العلاقة بين أسلوب الحياة و السلوك الاجتماعي الذي يبرز فيه عنصر التفاعل بشكل واضح ، فكما أن لأسلوب الحياة أن يؤثر في السلوك فإن لهذا الأسلوب أن يتأثر بالسلوك كذلك، ففي تقريره لهذه العلاقة يميز مالك بن نبي بين مجتمعين هما المجتمع البدائي و المجتمع التاريخي مبرزا طبيعة السلوك الذي يمكن أن يفرزه أي من هذين المجتمعين "فعندما يقوم مجتمع بدائي بوضع ( المحرمات ) حول تقاليده وأذواقه و استعمالاته لا يكون المحرم مدعاة للضحك في ذاته ، و لكنه الفراغ الثقافي أو – اللاثقافة – التي يقوم بالدفاع عنها وأعني بهذا مجموعة الأسباب التي ستبقي هذا المجتمع على ما هو عليه من ركود ، أما بالنسبة لمجتمع تاريخي فإن دفاعه عن أسلوب حياته هو دفاع عن شخصيته ،وعن مبدأ إدماج أفراده في نطاقه وتحديد علاقتهم به، بحيث يصبحون بمثابة التعريف به، كما يصبح مجتمعهم بمثابة المعرف لهم، فالإرغام الاجتماعي و الموقف النقدي للفرد :هما المظهران الأساسيان لثقافة معينة في وظيفتها "[5] .
الهوامش:
[1] - مالك بن نبي – مشكلة الثقافة – ترجمة عبد الصبور شاهين – دار الفكر – دمشق – ط 4 – 1984 –ص 43 ।
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق