الأحد، 23 فبراير 2014

عن الثقافة الوطنية في الجزائر



  
  سفيان ميمون

 لم يكن مفهوم الثقافة الوطنية واحدا منذ أن توطن الاستعمار الفرنسي في الجزائر وأنشأ مدارسه وخرج إطاراته ، فقد بدأ الخلاف في عز الحركة الوطنية الجزائرية بمشاربها الأيديولوجية المختلفة ، حيث راح كل اتجاه يرسم صورة المجتمع الذي يريده من منطلق ما يتبناه من عقيدة ، واستمر الخلاف بعد الاستقلال من خلال تيارين أساسيين راحا يحددان طبيعة العناصر التي " يجب " أن تتخذ كأسس لبناء صرح الثقافة الوطنية الجزائرية .

فبرز التيار الأول في صورة محافظة تنشد العودة إلى الماضي واستحضاره من جديد ليشكل دعامة أساسية للنهوض والتطور ، فاللغة والدين والتاريخ هي الركائز الأساسية لتشكيل ثقافة وطنية جزائرية تتشكل وفقها هويتنا التي نعرف بها ، ونذكر من الداعين إلى هذا الموقف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الذي وثق رؤيته في كتاب صدر بعيد الاستقلال سماه " من تصفية الاستعمار إلى الثورة الثقافية " ، كما لنا أن نذكر أفكار الدكتور أحمد بن نعمان المبثوثة في ثنايا مؤلفاته المختلفة ، والذي واصل في طريق هذه الرؤية المحافظة التي تعتبر امتدادا للتيار المحافظ ، الذي شكل طرفا مهما من أطراف الحركة الوطنية الجزائرية قبل الثورة ، ففي كتابه " مصير وحدة الجزائر بين أمانة الشهداء وخيانة الخفراء" ، يرى بن نعمان أن استخدام اللسان الفرنسي مثلا في مجالات الحياة المختلفة إنما هو استكمال لمسيرة الاستعمار الفرنسي الذي كان يهدف إلى استبعاد اللغة العربية وإبعاد المجتمع الجزائري عن تاريخه مما يسمح بإذابة هذا المجتمع في بوتقة الأمة الفرنسية .

أما التيار الثاني فراح يرفض محاولات التقديس التي طالت عناصر ثقافية محدودة ( اللغة والدين والتاريخ) ، لذلك دعا أنصاره إلى  ضرورة توسيع هذه العناصر مع الإبقاء عليها جميعا أو رفض بعضها لضرورة معينة ، وضمن هذا الإطار نجد مصطفى الأشرف في كتابه " الجزائر الأمة والمجتمع " يفاضل بين الأمة والمجتمع فيرجح كفة المجتمع على الأمة ، ونجد هذه المفاضلة قائمة عنده في مسألة اللغة ، فاللغة ترتبط بالأمة والمجتمع كليهما ولكن ارتباطها بالمجتمع أشد وأقوى ، لذلك يحاول الأشرف أن ينظر لتقبل اللغة الفرنسية في الجزائر كلغة فرضها الواقع  - أي المجتمع – بينما تبقى اللغة المرتبطة بالأمة – اللغة العربية – بعيدة عن تحقيق متطلبات الانسان الجزائري نحو التقدم بسبب تأثرها بطبيعة العلاقة بين الغالب والمغلوب بعد الغزو الاستعماري .

وإلى جانب هذين التيارين نجد تيارا آخر له حضور في قلب الصراع الدائر حول الثقافة الوطنية في الجزائر ، وهو تيار أسس رؤيته على ضرورة الاعتراف بالأمازيغية لغة وتاريخا ، وقد حاول هذا التيار أن يكرس رؤيته للشخصية الجزائرية قبيل الثورة باعتبار أن لها مميزاتها الخاصة التي تميزها بدلا من إصرار بعض أجنحة الحركة الوطنية على إلحاقها بالوطن العربي .

وقد عادت القضية الأمازيغية إلى الحضور بعد الاستقلال بعدما خبت خلال الثورة لأولوية الاتحاد في الكفاح ، فبرزت بعض الدعوات إلى رفض التعريب الذي باشرته الدولة خلال السبعينات ، وراحت هذه الدعوات تزداد تأججا في الحالات التي يبدو فيها تجاهل الدولة لهذا التيار أو استبعاده ، لقد رأى أنصار هذا التيار مثلا أن الدولة تعمدت إعلان انطلاق تظاهرة " الجزائر عاصمة الثقافة العربية " لعام 2007 في الثاني عشر من جانفي والذي يصادف الفاتح من يناير وهو رأس السنة الأمازيغية ، فكانت ثمة دعوة للتظاهر تجسدت كما ذكرت جريدة الشروق في عددها ليوم 10/01/2007 في خروج طلبة من من جامعة بجاية للتظاهر وهم يرفعون شعارا لكاتب ياسين " إن كنا أمازيغ فلم نعرب ؟ وإن كنا عربا فما الفائدة من تعريبنا ؟"

لقد شكلت الثقافة والهوية في الجزائر قضية خلاف وجدل كبير ، لذلك حاول بعض المفكرين احتواء هذا الخلاف من خلال " رؤية وسط" تحاول التوفيق بين جميع العناصر المختلف فيها ، فنجد الدكتور عبد الغني مغربي في كتابه « la culture algérienne de Masinissa à nos jours » يدعوا إلى ضرورة فهم الثقافة الجزائرية في سياقها الكلي المتفاعل ودون إقصاء لعنصر من العناصر ، كنا نجد هذه النظرة التوليفية لدى الدكتور علي الكنز في كتابه " حول الأزمة " حيث يرى أن الثقافة الوطنية تجمع بين العروبة والإسلام والشيوعية والعلمانية كما تجمع بين التقليد والعصرنة ، وبهذا لا يرى الكنز أي تعارض بين العناصر المتقابلة التي تشكل مفهومه للثقافة الوطنية  ، فالثقافة الوطنية من هذا المنظور لا تتقوقع على عناصر بعينها ولكنها تشمل كل العقائد والممارسات التي تتم داخل  المجتمع بصرف النظر عن مصدرها أصيلا كان أم دخيلا .

غير أن هذا التأليف الذي ألفه علي الكنز يرفضه بعض المفكرين باعتباره تأليفا يؤول إلى ترجيح الكفة لصالح بعض العناصر على عناصر أخرى ، فعنصر " العلمانية " غير متكافئ مع عنصر " الإسلامية " لأن السلطة  ( بمعناها العام ) في الواقع محتكرة من قبل الاتجاه العلماني ، لذلك فإن تواجد عنصر

" الإسلامية "  " و " العروبة " إنما هو تواجد شكلي يؤول بهذه الرؤية التوليفية إلى أن تصب في نفس رؤية " الحداثيين " .

وفي هذا السياق يأتي رفض الدكتور محمد العربي ولد خليفة لإدراج بعض العناصر كمكونات للثقافة والهوية الوطنية على غرار العلمانية والشيوعية في كتابه " المسألة الثقافية وقضايا اللسان والهوية " حيث يرى أن استخدام مثل هذه المصطلحات إنما هو دليل على تأثر النخبة الجزائرية بالنموذج الفرنسي والتي راحت بعض تنظيماتها وأفرادها تعمل على ما سماه " هدم المركز " أي إضعاف الجانب الروحي للأمة من خلال اعتبارها لديباجة الدستور التي تنص على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية سببا رئيسا للعنف والتطرف .

ويبدوا أخيرا أن الحديث عن الثقافة والهوية  في الجزائر يطرح ويعالج بنظرة أيديولوجية خالصة ، وإن كان ذلك لدى الاتجاه الذي يدعوا إلى  التوفيق بين الاتجاهات المتصارعة ، لأن العناصر الثقافية المختلفة ليست منفصلة – بأية حال من الأحوال – عن الفاعلين الاجتماعيين داخل  المجتمع ، فالعنصر الذي يرتبط بالجماعات القوية والمسيطرة اجتماعيا وسياسيا يكون مسيطرا من الناحية الرمزية والفعلية إذا اقترن بعنصر آخر يرتبط بجماعات بعيدة عن السلطة وليس لها نفوذ واضح ، وتلك حال ثنائيتي " علمانية – إسلامية " أو " تعريب – فرنسة " ، وليس أدل على هذا مما خلفته قضية التعريب من جدل حيث طرحت بعض الرؤى لمشكلة الانتقال السلس من الفرنسة إلى التعريب منها الدعوة إلى الاهتمام بالعربية الشعبية ، والدفاع عن الازدواجية اللغوية " فرنسية – عربية " ، لكنها رؤى ملغمة وتستهدف – كما يذكر الدكتور جمال لعبيدي -  الحفاظ على المصالح الاجتماعية للإطارات المفرنسة المتحكمة في زمام الأوضاع ، والتي هالها أن تضيع منها الامتيازات الكثيرة التي حصلت عليها من خلال معرفتها باللغة الفرنسية ، فاللغة الشعبية أو حتى اللغة العربية لا يمكنها أن تكون منافسا للغة الفرنسية في سياق اجتماعي يقر بتخلف اللغة العربية نتيجة تخلف واقعها ، مثلما لا يمكن لمزيج من الكلام  في صورة اللغة الشعبية أن يكون منافسا للغة لها أصول وأسس ، وتتصل بواقع متطور . 

نشر المقال بجريدة القدس العربي يوم 24/02/2014  عدد 7674 .
الرابط /  http://www.alquds.co.uk/?p=136716