السبت، 1 أغسطس 2009

الاندماج و السلطة

سفيان ميمون

يمكن النظر إلى الاندماج من زاويتين اثنتين زاوية المجتمع وزاوية الثقافة فالاندماج في الحالة الأولى يتعلق بعملية التفاعل بين الجماعات والأفراد في مجالات معينة ، وقد يتصل بالقدرة على التكيف في نطاق محدد بينما الاندماج في الحالة الثانية أمر معقد لأنه يتعلق بالقيم واتصالها بالجماعة ،وثبات هذه القيم ككتلة معنوية معبرة عن روح الجماعة وشخصيتها فهي بهذا تشكل هويتها التي تعرف بها مقابل هويات أخرى تشكلها قيم أخرى مغايرة ، على أن اختلاف هذه القيم التي تصنع الهويات المختلفة له مصادره الاجتماعية والتاريخية والثقافية والدينية......،هنا أجدني أرجع إلى الخلف إلى الأسباب ذاتها التي تجعلنا نطرح قضية الاندماج من منطلق الاختلاف الماثل أمامنا لدى الجماعات الإنسانية ، ولكنه أمر مهم للفت الانتباه إلى ضرورة التفريق بين " الإدماج "و "الاندماج" فنتحدث عن الادماج إذا كان لإحدى الجماعات الداعية إلى الاندماج اتصال بنوع محدد من السلطة كأن تستند إلى سلطة القانون ، أو سلطة الكثرة "كثرة أفرادها" أو سلطة الجغرافيا ...، كما نتحدث عن الاندماج في حالة اتصاله بهذه السلطة وفي حالة انفصاله عنها كذلك لأن الاندماج نوعان : اندماج بمحض الاختيار حيث تكون للذات سلطة على ذاتها وتمتلك موازاة مع ذلك الوعي الكافي الذي يمكنها من تحديد وبناء اختيارها ، واندماج قسري تترك خلاله الذات السلطة للآخر الذي يعمل من منطلق هذه السلطة على محاولة إدماج الآخرين في منظومة قيمه وأفكاره .
وهنا نجد أنفسنا إزاء نوع من التنازع السلطوي كلما طرحنا قضية الاندماج بين الداعين إليه والمدعوين له، فكلما زادت سلطة الداعي إلى الاندماج على جماعة بشرية يريد لها أن تندمج في بوتقة قيمية معينة ، وأن تألف وسطا اجتماعيا محددا كلما تضاءلت سلطة هذه الجماعة على ذاتها وفقدت القدرة على اختيار طرق ووسائل الاندماج الفعالة ، بل وربما تولد لديها سلوك انتكاسي تقوقعي سرعان ما يركن إلى الذات لا ينشد غيرها ، وهو سلوك يبدو إيجابيا حينما يطرح في سياق عملية التسلط الثقافي والقيمي التي تنتج عن دعوة القوي لاندماج ثقافي غير متكافئ القوى ، ولكنه سلوك سلبي بالمعنى العام لأنه لا يتيح للذات أن تحقق ذاتها من خلال انفتاح ثقافي يسمح لها بتجديد أطرها واكتساب الجديد الذي يسمح لها بالمواجهة الدائمة من أجل البقاء، فالانفتاح الثقافي لا يمكن له أن يتهيأ لجماعة من الجماعات ما لم يكن مقترنا بسلطة على الذات ، كما لا يصبح ذا معنى إذا سعى الآخر إلى استعمال ضروب السلطة المختلفة من أجل التطويع و الهيمنة ، و هنا نجد الانفتاح الثقافي الفعلي هو ذلك الذي يستند إلى نوع من التكافؤ أو التقارب السلطوي الذي يعطي لعملية المثاقفة معناها الأصيل الذي يخلو من كل هيمنة فالتثاقف السيد الذي تمتلك خلاله الذات سلطة على ذاتها وحده الذي يعطي للاندماج معناه الحقيقي ، كما أنه يعمل على تجنب مساوئ العولمة في مجال الثقافة .
إن كثيرا من صور عدم الاندماج و الذي يرتقي إلى درجة التنافر أحيانا تصنعها نظرة خائفة متحفظة حيال الآخر كما تصنعها أيضا نظرة متسلطة تنشد الاندماج لكن على مقاسها الخاص، خذ لذلك مثلا حالة المسلمين في بعض بلاد أوروبا إذ يتم التعامل مع الثقافة الإسلامية بشيء من الخوف الذي يولد نوعا من السلوك المتعالي المتسلط كمحاولة عملية لإبعاد الخوف و رميه بعيدا من خلال السعي لفرض نمط قيمي محدد استنادا إلى ما توفر من مختلف أنواع السلطة ، و في الوقت ذاته نجد كثيرا من المسلمين يتقوقعون على أنفسهم في شكل من أشكال الخوف على ثقافتهم على اعتبار أنهم يفتقدون لسلطة التوسع الثقافي و شغل حيز هام في الحقل الثقافي العام ، مكتفين بسلطة رفض الآخر الذي ينشد الهيمنة .
تبرز في أوربا بين الحين و الآخر أصوات تدعو إلى اندماج حقيقي مؤسس على موضوعية في الطرح و عقلانية في الفكر لكن هذه الأصوات سرعان ما تجابه من قبل دعاة الاندماج المفصل على المقاس الذين لا يجدون له من مرادفات سوى الاحتواء و الاستيعاب ، و لا أدل على ذلك من دعوة "روان وليامز" رئيس أساقفة كانتر بري عام 2008 إلى تطبيق بعض جوانب الشريعة الإسلامية في بريطانيا خلال حوار أجراه مع هيئة الإذاعة البريطانية معتبرا أن ذلك أمرا لا يمكن تجنبه لأنه يساعد على بلوغ انسجام اجتماعي ، لكن هذه الدعوة سرعان ما جوبهت بالرفض لدى الكثيرين و على رأسهم "فولف جانج هوبر" أسقف الكنيسة الانجيلية الألمانية الذي اعتبر في لقاء مع " دوتشه فيله "الألمانية أن تطبيق نظامين قانونين يتعارض مع هدف الاندماج في المجتمع مبديا تخوفه من تشكل مجتمعات موازية في ألمانيا .
ربما كان هاجس المجتمعات الموازية التي تتشكل في ألمانيا و في غيرها من دول أوربا هو الدافع الفعلي إلى الاهتمام بقضية الاندماج من مبدأ الاحتواء و الإسراع في تجريد هذه الجماعات من سلطة القوة التي يمكن لها أن تنمو بنمو هذه الجماعات ذاتها ، و ذلك من خلال قوة السلطة التي تتمتع بها داخل بلدانها ، و يمكن هنا أن ننظر إلى الإجراء الذي أقدمت عليه فرنسا خلال الأعوام الماضية بمنع الحجاب في المؤسسات الرسمية و سعيها لمنع البرقع خلال الأسابيع الأخيرة ، فهي تعرف ما يمثله الحجاب كرمز قيمي ديني و ثقافي ، يمتلك سلطة رمزية من شأنها أن تزيد من مكانة الإسلام و قوته في المجتمع الفرنسي .
الاندماج بين جماعات مختلفة ثقافيا أو بين جماعتين مختلفتين على الأقل تعترضه عوائق كثيرة تتصل بالسلطة والخوف كليهما إذ نجد الطرف الداعي إلى الاندماج وهو صاحب سلطة ثقافية ورمزية يرفق دعوته هذه بنوع من التحفظ كمؤشر واضح على الخوف الذي يعتريه حيال نوع محدد من القيم التي يمكنها أن تحتل حيزا جغرافيا وبشريا معتبرا ، كما نجد من أهم عوائق الاندماج أيضا خوف الطرف المدعو لهذا الاندماج على ثقافته و قيمه خاصة تلك التي تتصل بالمقدس ، هذا الخوف المتبادل هو الذي يضع العوائق أمام اندماج ثقافي فعال يكون فيه لكل جماعة بشرية السلطة الكاملة في قبول ورفض العناصر الثقافية الوافدة عليها وفتح نوافذها أمام ثقافة الجماعات الأخرى وفقا لهذه السلطة أيضا، لكننا إذا أردنا تجاوز عوائق الاندماج فإنه علينا أن نقرن هذه السلطة بالوعي بدل الخوف ، أن نعي متطلبات الآخر وحاجاته إضافة إلى متطلبات وحاجات الذات، لذلك يمكن لدولة ما كألمانيا أو فرنسا مثلا أن تجعل من قوانينها التي تتصل بالمهاجرين أكثر مرونة ، كما يمكن لأي جماعة بشرية تعيش في نطاق هذه الدول التخفيف من حدة بعض الأنماط الثقافية لتكون متكيفة مع هذه القوانين ، وما لم يكن متاحا التنازل عنه يمكن التفاوض حوله وتقديم الشروحات الكافية لذلك مع توقع تفهم الآخر لتكون علاقة التفاهم هذه سبيلا من سبل الاندماج .
إن اندماجا فعليا لن يكون له كيان ما لم يكن ثمة تفاهم رمزي بين الأطراف الداعية للاندماج و الأطراف الواقعة موضوعا لهذه الدعوة حول صيغة للتقارب السلطوي تحد من استعلاء و تجبر القوي كما تحد من انكماش و تقوقع الجماعات الصغيرة الناشئة .
نشر المقال بجريدة القدس العربي اللندنية يوم18/08/2009 عدد6284 وهومتوفر على الرابط: http://www.alquds.co.uk/archives/2009/08/08-17/qmd.pdf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق