السبت، 8 يونيو 2013

المثقف بين الوضع والدور


سفيان ميمون

إذا كانت الثقافة في مفهومها العام هي ذلك النشاط العقلي والممارسة السلوكية للأفراد فإن المثقف هو الذي يؤدي هذا النشاط ويمارس ذلك السلوك ، ولذلك كانت الثقافة عملة المثقف بها يتعامل ومن أجلها يسعى ، إذ أن الثقافة هي الأداة والهدف في الوقت نفسه ، فهي أداة لأن المثقف يفكر ويتأمل بفعل ما تشكل لديه من قيم وأفكار ، وهي الهدف المنشود أيضا حينما ينخرط المثقف في التأسيس لأيديولوجية المجتمع عبر المدرسة والإعلام والجامعة والأدب....
إن التأسيس لأيديولوجية ما لا يتوقف عند مجرد اكتساب المعارف وإعادة إنتاجها كما هي دون نقد ولكن باكتساب المثقف للعقل الناقد المبدع لذلك يرى محمد أركون أن المثقف هو " ذلك العامل المنخرط في أعمال معرفية تتطلب بالضرورة استخداما نقديا للعقل " فالانخراط الذي يريده أركون هو انخراط في المعرفة ومقتضياتها وليس انخراطا في قوالب أيديولوجية ما تطبق على المثقف وتجعل منه عبدا مطيعا، إنه يريد المثقف الناقد والنقد يحيل بالضرورة على الحرية .
لطالما نادى المفكرون والأدباء بحرية الثقافة ودعوا إلى تحرير المثقفين من مختلف الأطر التي تنمط تفكيرهم ، ويمكن أن نذكر هنا كمثال رؤية المفكر علي حرب وما يدعوا إليه صراحة من ضرورة التخلص من الأوهام التي علقت بذهن المثقف ، ففي كتابه "أوهام النخبة" يرى حرب أنه من واجب المثقف أن يموضع نفسه في خانة الانتاج والابداع والنقد الثقافي وهي حسبه المهمة الوحيدة التي يجب أن يضطلع بها ، لذلك يعيب على المثقفين انصرافهم إلى مهام أخرى وتقمص أدوار ليست لهم ، كتقمص دور السياسي والداعية أو النبي والكاهن .....
لقد كانت هذه الأدوار حسب علي حرب نتاجا حقيقيا لجملة من الأوهام التي تقيد ذهن المثقف وتصرفه عن ممارسة النقد للنقد والإبداع لذاته ،  فوهم "الهوية" مثلا جعل المثقف متمسكا ومنشغلا بالتراث بينما الواجب هو الاشتغال عليه والتجديد فيه ، مثلما غلف وهم     " الحداثة"ذهن المثقف وجعله يتوهم الحرية بابتعاده عن التراث ولكنه – في الحقيقة – يخضع لتراث آخر هو تراث الآخرين ، وبهذا يلتقي من يدعوا إلى الهوية والتراث مع من يدعوا إلى الحداثة والتجديد في التبعية والتقليد .
إن حرية المثقف في ممارسة التفكير والنقد لا تعني – البتة – انفصاله المطلق عن السياق الاجتماعي والتاريخي الذي يمارس فيه عمله بقدر ما تعني وعيه بما يحيط به واستيعابه لمختلف التفاصيل الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية في حركيتها المستمرة ، أي أنه على المثقف أن يكون قادرا على إدراك وضعه الاجتماعي وتفكيك السياق الثقافي الذي يمارس فيه عمله ، ومن هذا المنطلق يرى هشام شرابي أن ما يميز المثقف صفتان اثنتان : الوعي الاجتماعي الذي يسمح للمثقف بالنظر إلى قضايا المجتمع وتحليلها من منظور شامل والدور الاجتماعي الذي يؤديه المثقف بدافع وعيه المكتسب .
هناك إذا جدلية صريحة بين الوعي والدور فبينما يمكن الوعي الدور من الأداء الفعال نتيجة الإحاطة بالواقع الاجتماعي وفهمه وتحليله ، يزيد الدور الوعي وعيا إضافيا نتيجة الممارسة الميدانية ، فالممارسة الميدانية تكشف للمثقف عن عوامل جديدة لم يكن يعرفها ، وهو يعمل دائما على تجديد وعيه وفقا لهذا الدور وبهذا فقط يستطيع أن يقدم أداء راقيا يستفيد منه الجميع .
إن وعي المثقف بوضعه الاجتماعي يطرح كيفية تعاطيه مع هذا الوضع ، فتارة يقبل به ويسانده  وتارة أخرى ينبذه وينخرط في تيار التغيير فيكون المثقف هنا مثقفا ملتزما ومنحازا إلى طبقة أو جماعة معينة ، ويقدم الصراع الاجتماعي في صورة صراع ثقافي يقوده المثقفون الذين يلزم كل واحد منهم إحدى هذه الطبقات أو الجماعات ، وفي سياق الحديث عن المجتمعات الطبقية تبدو بوضوح قضية التزام المثقف بمبادئ طبقته  وهذا أمر مألوف ، فالطبقة لها دور كبير في تشكيل المثقفين وتأميمهم للدفاع عن فلسفتها والحفاظ على بقائها واستمرارها وهو أمر وإن أحال إلى خضوع المثقف إلى فلسفة الطبقة ومصالحها فإنه يحيل أيضا إلى وعيه بمبادئ هذه الطبقة وأهدافها .
لقد حاول بعض المحللين الماركسيين ممن اهتموا بالبنية الفوقية ودورها في التشكيل الاجتماعي أن يوضحوا هذا الأمر ، فمن هؤلاء نجد المفكر الإيطالي " أنطونيو غرا مشي"الذي ربط ربطا جدليا بين المثقف باعتباره ممثلا للبنية الفوقية والطبقة باعتبارها مجموعة  من العلاقات الاجتماعية التي تشكل البنية التحتية ، فالطبقة عنده لا بد أن تتخذ لنفسها مجموعة من المثقفين الذين يدافعون عنها بعدما تقوم بإنتاجهم أو استيعابهم ،
ف" غر امشي " يطرح قضية تبعية المثقف وتحرره من خلال سؤال طرحه وراح يجيب عنه في كتاب " قضايا المادية التاريخية ": هل يشكل المثقفون طبقة اجتماعية قائمة بذاتها ، أم أن لكل طبقة اجتماعية فئة متخصصة من المثقفين ؟ ، ينفي غرا مشي في جوابه عن السؤال الذي طرحه اتفاق المثقفين وتكتلهم ويقر بالشتات والانشطار ، فكل فئة من هؤلاء المثقفين تنتمي إلى طبقة اجتماعية معينة ، وهو بهذا لا يشد عن التصور الماركسي العام الذي يقدم البنية التحتية أساسا للبنية الفوقية ، والذي يؤدي بالضرورة إلى مسألة عكسية وهي غاية الطبقة وسر بقائها حيث البنية الفوقية – في النهاية –هي التي تحافظ على شكل العلاقات والأنماط الاجتماعية المشكلة للبنية التحتية .
إن القول بتبعية المثقفين إلى إحدى الطبقات الاجتماعية لا ينفي تحررهم بشكل مطلق ، فتبعية المثقف وتحرره لا يشكلان تناقضا بقدر ما يصنعان ترتيبا أنيقا ، فالمثقف من خلال انتمائه إلى الطبقة البروليتارية مثلا يسعى إلى تحرير المجتمع من وحشية العلاقات القائمة في سياق النظام الرأسمالي ، كما أن التماهي مع مبادئ الطبقة والإيمان بها يجعل المثقف متحررا من أي ضغط أو إكراه ، فدور المثقف ونشاطه الذي يؤديه لصالح الطبقة التي ينتمي إليها هو الذي يحدد مدى قوة هذه الطبقة ، كما يحدد في الوقت نفسه وضع المثقف ومكانته داخلها .
قد يكون التزام المثقف بقضايا جماعة أو طبقة معينة مرتبطا بضغوط السياسة ومغريات المال وهي قضية مطروحة في عصرنا الحاضر ، فانتماء المثقف إلى مؤسسة إعلامية معينة تجعل منه ناقلا أمينا لمبادئها وأهدافها مهمشا بذلك آراءه وتصوراته ، لأنه ببساطة باع كفاءته ، ونذر نفسه وعقله لهذه المؤسسة ، إن الفاصل في هذه القضية هو اتفاق أيديولوجية المثقف مع أيديولوجية المؤسسة والقائمين عليها ، لكن الأمر ليس هينا فالمثقف اليوم صار مترنحا في اختياره بين رزقه ومبادئه ، وكثيرا ما يختار الرزق – قبل الفلسفة – لإثبات الوجود .

هناك 8 تعليقات:

  1. مشكور اخي سفيان
    الا ترى اننا نعيش اليوم ازمة بكل ما تعنيه الكلمة وليس هذا تشاؤما لكن الاشكالية هي هل يصح ان نطلق تسمية المثقف على الكثير من الذين يعتلون منابر المدرجات في الجامعى و كراسي الندوات العلمية . المثقف بحق هو ذلك الوفي لمبداه و المدافع عنه من دون اعتبارات مادية و لا سياسوية و هنا يحضرني ما قاله ماكس فيبر ان الباحث و العلم لن يكون نزيها الا عندما يتحرره من ذاتيته و مصالحه المعيشية . اذن يا أخي اين هم المثقفون نحن نفتقد التثقيف و و نتبجح بالتسقيف و التسفيق . قندوز محمود

    ردحذف
  2. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  3. أعجبني الشاعر الكبير نزار قباني حينما قال: ثقافتنا
    فقاقيع من الصابون والوحل
    فمازالت بداخلنا
    "رواسب من " أبي جهل

    أشكر أخي سفيان على هذه السطور,
    حينما تتحول الثقافة الى سلعة تباع و تشترى فتلك هي الكارثة, مثقف اليوم للأسف أصبح انبطاحيا و إنهزاميا إلى درجة انه تخلى عن تقاليد,تربيته وداس على مبادئه, أصبح مكيافيليا بل أكثر من هذا خنزيرا متلددا كما قال الفيلسوف "أبيقور". تحول للأسف الى خادم مطيع يطبق أوامر السلطان بلا نقاش و لا جدال. متقف اليوم مزمار من مزامير أبي جهل, يسوق قوافله, و يطعمه بيديه, و يلمع حتى حذائه الايطالي. للأسف يوجد البعض من المثقفين من ساقهم الجوع البيولوجي سوقا كما يشير الى ذلك "ماسلو" في سلم الحاجات, و يوجد من قاده الجوع الفكري الى بيع ضميره من أجل شهادة أو منصب عمل. ثقافتي التي اوؤمن بها هي ترك الفلسفة لأهلهالأني لا أتقن لغة الكذب, و لا أريد إعادة انتاج نفس المسلسل كما قال " بيار بورديو". سأموت واقفا كلمة تعلمتها من فيلم " الأفيون و العصا".." علي موت واقف"...الحياة علمتنا إما أن نكون رجالا سيذكرهم التاريخ...و إما أنذالا سيمحقهم الزمن و الايام دول..بقلم: بونخلة فريد

    ردحذف
  4. السلام عليكم / شكرا للأستادين فريد ومحمود على هذه الإفادة . حقيقة المثقف لا يتطابق مع مدعي الثقافة فهو فقط من يمارس ويلتزم بالمبادئ والقيم .المثقف ، هو من يساير الواقع الاجتماعي ويعمل من أجله محافظا أو راميا إلى التغيير ، وإن كان عمله غير ظاهر ، وكأن ممارسة المثقف لعمله الثقافي والفكري لصالح مجتمعه وأمته هو رأس الجهاد الأكبر .

    ردحذف
  5. المثقف اليوم نادر بصراحة خاصة في المجتمع الجزائري الذي اختلط فيه الحابل بالنابل و أصبحت المزايدات ثقافة و النفاق ثقافة و التحذلق ثقافة ...المشكلة أن الأمر يزداد سوء و لم يعد هناكمجال حتى لممارسة الخيار بين هذا و ذاك فذاك الرزق لطالما أذل المثقفين و تلك الثقافة لم تعد تجد في مجتمعات لا تسمع و لا تقرأ فلما تهتم ؟؟؟
    by rayii

    ردحذف
    الردود
    1. فعلا لقد أصبت فثقافتنا هي ثقافة المزايدات والتطاول وثقافة الشقاق والنفاق فهذا يزايد بالوطنية وذاك بالانتماء وذلك ينافق لكي يحافظ على المنصب ....أعتقد أن الصفاء والنزاهة هو الذي يحقق فعلا ثقافيا فعالا ومجديا . شكرا جزيلا سيدتي

      حذف
  6. Abdellah Moslim Moslim سأروي لك هذه القصة المقتبسة من إحدى المواقع .. وقد أعجبتني لأنها تلخص عمق المأساة التي نعيشها ........... كان يا مكان في أحد الاسطبلات العربية معشر من الحمير
    وذات يوم أضرب حمار عن الطعام مدة من الزمن
    فضعف جسده وتهدّلت أذناه وكاد جسده يقع على الارض من الوهن
    فأدرك الحمار الأب ان وضع ابنه يتدهور كل يوم
    وأراد أن يفهم منه سبب ذلك
    فأتاه على انفراد يستطلع حالته النفسية والصحية التي تزداد تدهورا
    فقال له : ما بك يابني؟؟
    لقد احضرت لك افضل انواع الشعير.. وأنت لاتزال رافضا ان تأكل..
    أخبرني ما بك؟ ولماذا تفعل ذلك بنفسك؟ هل أزعجك أحد؟
    رفع الحمار الأبن رأسه وخاطب والده قائلا:
    نعم يا أبي .. انهم البشر..
    دُهش الأب الحمار وقال لأبنه الصغير:
    وما بهم البشر يا بني؟
    فقال له: انهم يسخرون منّانحن معشر الحمير..
    فقال الأب وكيف ذلك؟
    قال الأبن: ألم ترهم كلما قام احدهم بفعل مشين يقولون له يا حمار..أنحن حقا كذلك؟
    وكلما قام أحد ابنائهم برذيلة يقولون له يا حمار..
    يصفون أغبياءهم بالحمير.. ونحن لسنا كذلك يا أبي..
    اننا نعمل دون كلل أو ملل.. ونفهم وندرك.. ولنا مشاعر..
    عندها ارتبك الحمار الأب ولم يعرف كيف يردّ على تساؤلات صغيره وهو في هذه الحالة السيئة
    ولكن سُرعان ما حرّك أذنيه يُمنة ويٍُسرة ثم بدأ يحاور ابنه محاولا اقناعه حسب منطق الحمير..
    انظر يا بني انهم معشر خلقهم الله وفضّلهم على سائر المخلوقات لكنّهم أساؤوا لأنفسهم كثيرا قبل أن يتوجهو لنا نحن معشرالحمير بالاساءة..
    فانظر مثلا..
    هل رأيت حمارا في عمرك يسرق مال اخيه؟؟
    هل سمعت بذلك؟
    هل رأيت حمار ينهب طعام اخيه الحمار؟
    هل رأيت حمار يشتكي على أحد من أبناء جنسه؟
    هل رأيت حمار يشتم أخيه الحمار أو أحد ابنائه
    هل رأيت حمار يضرب زوجته وأولاده؟
    هل رأيت زوجات الحمير وبناتهم يتسكعون في الشوارع والمقاهي؟
    هل سمعت يوما ما أن الحمير الأمريكان يخططون لقتل الحمير العرب!! من أجل الحصول على الشعير؟
    طبعا لم تسمع بهذه الجرائم الانسانية!!
    اذن أطلب منك أن تحّكم عقلك الحميري وأطلب منك أن ترفع رأسي عاليا
    وتبقى كعهدي بك حمار ابن حمار
    واتركهم يقولو ما يشاؤن..فيكفينا فخرا أننا حمير لانقتل ولا نسرق ولا نغتاب ولا نسّب...
    أعجبت هذه الكلمات الحمار الأبن فقام وراح يلتهم الشعير وهو يقول:
    نعم سأبقى كما عهدتني ياأبي ..
    سأبقى حمار ابن حمار..!

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا أستاذ عبد الغني فهذه القصة معبرة جدا وهي تحيل إلى غياب الثقافة لدى من يتوسم فيهم أن يكونو ا ذوي ثقافة - أي غياب الأخلاق والقيم خلال المواضع التي يجب أن تكون فيها ،ّأي لدى أبناء النوع الانساني ، ولاستخدام "الحمار " في القصة رمزية قوية ودلالة واضحة على ذلك .

      حذف