إذا كان دور العلوم الطبيعية محسوما
في مساهمتها بشكل مباشر في تنمية المجتمع اقتصاديا واجتماعيا فإن للعلوم
الاجتماعية دورها الواضح والخطير أيضا في هذا الشأن ، فإليها يوكل الأمر
في تفسير وفهم الواقع الاجتماعي والسياسي والأخلاقي ...، كما أنها تساهم في
تحديد الجوانب الطبيعية والصناعية أيضا ، فلا يمكن فهم مجال الصناعة مثلا
بالاعتماد على الجانب التقني وحده والذي تمثله العلوم الطبيعية ، بل لا بد من
الرجوع أيضا مختلف التفسيرات الأخلاقية والقيمية والتي تنتجها العلوم
الاجتماعية ليكتمل فهم الواقع الصناعي .
من هذا يبدو واضحا أن العلوم
الاجتماعية تقف جنبا إلى جنب مع العلوم الطبيعية في فهم الواقع وتفسيره
وتقديم الحلول لمختلف المشاكل التي تواجه الانسان ، لكن العلوم الاجتماعية واجهت
منذ نشأتها مشكلة أخرى تتصل بعلاقتها مع العلوم الطبيعية ومناهجها ، فالعلوم
الاجتماعية اتخذت موقفين مختلفين في هذا الشأن ، أما الموقف الأول فهو موقف ينزع
نحو الطبيعة أي يؤسس تفسيراته على الموضوع بعيدا عن الذات ،أي إبعاد الجوانب
الذاتية في الفهم ، فكل معرفة إنما تقوم على السبب الذي يوصل إلى حقيقة الظاهرة
وهو منهج اساسي في العلوم الطبيعية ، وقد كان ستوارت مل وأوغست كونت من
رواد هذا الاتجاه حيث كان سعيهما واضحا لبناء فزياء اجتماعية ، أي لبناء علم
اجتماعي لا يختلف في بنائه ومنهجه عن العلم الطبيعي ،وأما الموقف الثاني فقد جاء
لإثبات الجانب الانساني الذي ألغاه اصحاب الموقف الأول الذين نزعوا أكثر نحو
الطبيعة وأهملوا الإنسان ، فالإنسان لدى أصحاب هذا الموقف عامل أساسي في فهم واقع
الإنسان نفسه ، فالخبرات الانسانية والتوقعات والميول وغيرها عوامل أساسية في
الفهم ، يقول" ديلتي" في هذا الصدد :" إنه لمن الضروري بمكان
تأسيس هذه العلوم على نظرية معرفية وإكساب استقلالية وظيفتها مشروعية وقوة ،
بالإضافة إلى التخلي نهائيا عن إخضاعها من حيث مبادؤها ومناهجها لمبادئ
العلوم الطبيعية ومناهجها " .
وتشكل العلوم الاجتماعية مجتمعة إطارا
عاما تتعدد جوانبه ،فإلى جانب علم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم السياسة كعلوم
اجتماعية صرفة ، نجد علم الانسان ( الأنثروبولوجيا ) يجمع بين الرؤية الاجتماعية
والرؤية الطبيعية ،فعلم الانسان هو ذلك العلم الذي يصف ويقارن ويحلل الخصائص
والصفات الطبيعية البيولوجية والثقافية الاجتماعية ، وإذا ركزنا على علم الانسان
في جانبه الاجتماعي الثقافي فإننا نجد أن لهذا العلم فوائد جمة في الإحاطة بالواقع
الاجتماعي والثقافي للإنسان بغرض توظيف ما تسفر عنه الدراسات في هذا الجانب العلمي
لفائدة الانسان نفسه ، ومثال هذا استحداث فرع " الأنثروبولوجيا التطبيقية
" التي تبحث في كيفية توظيف ما توصلت إليه الأنثروبولوجيا في الحياة
الاجتماعية .
لقد نشأت الأنثروبولوجيا في خضم
التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حصلت في أوروبا أواسط القرن التاسع عشر ،
ولئن كان علم الاجتماع قد وجه لفهم هذه التغيرات وحل المشكلات الناتجة عنها فإن
الأنثروبولوجيا وجهت لفهم مجتمعات أخرى خارج أوروبا بغية فهمها وتقديم
معلومات عنها ، لذلك نشأت الأنثروبولوجيا وترعرعت في سياق النزعة الاستعمارية
الغربية للسيطرة على المجتمعات الواقعة وراء البحر.
إن استخدام علم الانسان في إنتاج
نظريات حول العرق والثقافة لتبرير الوجود الاستعماري يجعل الاعتقاد يترسخ أكثر
بالطابع الاستعماري للأنثروبولوجيا ، لذلك فإن هذا العلم قد انتهى مفعوله بانتهاء
فترة الاستعمار لان الهدف الذي أنشئ من أجله هذا العلم قد زال ، لكن الواقع يبين
أن علم الانسان كعلم اجتماعي مازال دوره قائما الى الآن خاصة وأنه يرتبط بجملة من
الموضوعات الثقافية والاجتماعية التي تفرض نفسها بقوة اليوم على غرار "
الثقافة "،" النظم الاجتماعية "، "الهوية الثقافية "
،"الاندماج الاجتماعي والثقافي " ،"العولمة الثقافية " ،
" دور الأسرة " .....،وهي موضوعات شائكة تتطلب الفهم ، كما أننا
بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الاعتماد على أنثروبولوجيا موسعة تشمل جميع
المجالات من خلال إعادة الاعتبار لمختلف الابعاد الاجتماعية والثقافية في
مختلف مؤسساتنا ، فتسيير هذه المؤسسات لا بد أن يرتكز إضافة إلى الجوانب التقنية
على الجوانب الروحية والأخلاقية لأن تسيير أي مؤسسة هو قبل كل شيء تسيير للمورد
البشري الذي يشكلها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق