سفيان
ميمون
إذا كانت الثقافة في
مفهومها العام هي ذلك النشاط العقلي والممارسة السلوكية للأفراد فإن المثقف هو
الذي يؤدي هذا النشاط ويمارس ذلك السلوك ، ولذلك كانت الثقافة عملة المثقف بها يتعامل
ومن أجلها يسعى ، إذ أن الثقافة هي الأداة والهدف في الوقت نفسه ، فهي أداة لأن
المثقف يفكر ويتأمل بفعل ما تشكل لديه من قيم وأفكار ، وهي الهدف المنشود أيضا
حينما ينخرط المثقف في التأسيس لأيديولوجية المجتمع عبر المدرسة والإعلام والجامعة
والأدب....
إن التأسيس لأيديولوجية ما
لا يتوقف عند مجرد اكتساب المعارف وإعادة إنتاجها كما هي دون نقد ولكن باكتساب
المثقف للعقل الناقد المبدع لذلك يرى محمد أركون أن المثقف هو " ذلك العامل
المنخرط في أعمال معرفية تتطلب بالضرورة استخداما نقديا للعقل " فالانخراط
الذي يريده أركون هو انخراط في المعرفة ومقتضياتها وليس انخراطا في قوالب
أيديولوجية ما تطبق على المثقف وتجعل منه عبدا مطيعا، إنه يريد المثقف الناقد
والنقد يحيل بالضرورة على الحرية .
لطالما نادى المفكرون
والأدباء بحرية الثقافة ودعوا إلى تحرير المثقفين من مختلف الأطر التي تنمط
تفكيرهم ، ويمكن أن نذكر هنا كمثال رؤية المفكر علي حرب وما يدعوا إليه صراحة من
ضرورة التخلص من الأوهام التي علقت بذهن المثقف ، ففي كتابه "أوهام
النخبة" يرى حرب أنه من واجب المثقف أن يموضع نفسه في خانة الانتاج والابداع
والنقد الثقافي وهي حسبه المهمة الوحيدة التي يجب أن يضطلع
بها ، لذلك يعيب على المثقفين انصرافهم إلى مهام أخرى وتقمص أدوار ليست لهم ،
كتقمص دور السياسي والداعية أو النبي والكاهن .....
لقد كانت هذه الأدوار حسب
علي حرب نتاجا حقيقيا لجملة من الأوهام التي تقيد ذهن المثقف وتصرفه عن ممارسة
النقد للنقد والإبداع لذاته ، فوهم "الهوية"
مثلا جعل المثقف متمسكا ومنشغلا بالتراث بينما الواجب هو الاشتغال عليه والتجديد
فيه ، مثلما غلف وهم "
الحداثة"ذهن المثقف وجعله يتوهم الحرية بابتعاده عن التراث ولكنه – في
الحقيقة – يخضع لتراث آخر هو تراث الآخرين ، وبهذا يلتقي من يدعوا إلى الهوية
والتراث مع من يدعوا إلى الحداثة والتجديد في التبعية والتقليد .
إن حرية المثقف في ممارسة
التفكير والنقد لا تعني – البتة – انفصاله المطلق عن السياق الاجتماعي والتاريخي
الذي يمارس فيه عمله بقدر ما تعني وعيه بما يحيط به واستيعابه لمختلف التفاصيل
الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية في حركيتها المستمرة ، أي أنه على المثقف أن
يكون قادرا على إدراك وضعه الاجتماعي وتفكيك السياق الثقافي الذي يمارس فيه عمله ،
ومن هذا المنطلق يرى هشام شرابي أن ما يميز المثقف صفتان اثنتان : الوعي الاجتماعي
الذي يسمح للمثقف بالنظر إلى قضايا المجتمع وتحليلها من منظور شامل والدور
الاجتماعي الذي يؤديه المثقف بدافع وعيه المكتسب .
هناك إذا جدلية صريحة بين
الوعي والدور فبينما يمكن الوعي الدور من الأداء الفعال نتيجة الإحاطة بالواقع
الاجتماعي وفهمه وتحليله ، يزيد الدور الوعي وعيا إضافيا نتيجة الممارسة الميدانية
، فالممارسة الميدانية تكشف للمثقف عن عوامل جديدة لم يكن يعرفها ، وهو يعمل دائما
على تجديد وعيه وفقا لهذا الدور وبهذا فقط يستطيع أن يقدم أداء راقيا يستفيد منه
الجميع .
إن وعي المثقف بوضعه
الاجتماعي يطرح كيفية تعاطيه مع هذا الوضع ، فتارة يقبل به ويسانده وتارة أخرى ينبذه وينخرط في تيار التغيير فيكون
المثقف هنا مثقفا ملتزما ومنحازا إلى طبقة أو جماعة معينة ، ويقدم الصراع
الاجتماعي في صورة صراع ثقافي يقوده المثقفون الذين يلزم كل واحد منهم إحدى هذه
الطبقات أو الجماعات ، وفي سياق الحديث عن المجتمعات الطبقية تبدو بوضوح قضية
التزام المثقف بمبادئ طبقته وهذا أمر مألوف
، فالطبقة لها دور كبير في تشكيل المثقفين وتأميمهم للدفاع عن فلسفتها والحفاظ على
بقائها واستمرارها وهو أمر وإن أحال إلى خضوع المثقف إلى فلسفة الطبقة ومصالحها
فإنه يحيل أيضا إلى وعيه بمبادئ هذه الطبقة وأهدافها .
لقد حاول بعض المحللين
الماركسيين ممن اهتموا بالبنية الفوقية ودورها في التشكيل الاجتماعي أن يوضحوا هذا
الأمر ، فمن هؤلاء نجد المفكر الإيطالي " أنطونيو غرا مشي"الذي ربط ربطا
جدليا بين المثقف باعتباره ممثلا للبنية الفوقية والطبقة باعتبارها مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي تشكل البنية
التحتية ، فالطبقة عنده لا بد أن تتخذ لنفسها مجموعة من المثقفين الذين يدافعون
عنها بعدما تقوم بإنتاجهم أو استيعابهم ،
ف" غر امشي "
يطرح قضية تبعية المثقف وتحرره من خلال سؤال طرحه وراح يجيب عنه في كتاب "
قضايا المادية التاريخية ": هل يشكل المثقفون طبقة اجتماعية قائمة بذاتها ،
أم أن لكل طبقة اجتماعية فئة متخصصة من المثقفين ؟ ، ينفي غرا مشي في جوابه عن
السؤال الذي طرحه اتفاق المثقفين وتكتلهم ويقر بالشتات والانشطار ، فكل فئة من
هؤلاء المثقفين تنتمي إلى طبقة اجتماعية معينة ، وهو بهذا لا يشد عن التصور
الماركسي العام الذي يقدم البنية التحتية أساسا للبنية الفوقية ، والذي يؤدي
بالضرورة إلى مسألة عكسية وهي غاية الطبقة وسر بقائها حيث البنية الفوقية – في
النهاية –هي التي تحافظ على شكل العلاقات والأنماط الاجتماعية المشكلة للبنية
التحتية .
إن القول بتبعية المثقفين
إلى إحدى الطبقات الاجتماعية لا ينفي تحررهم بشكل مطلق ، فتبعية المثقف وتحرره لا
يشكلان تناقضا بقدر ما يصنعان ترتيبا أنيقا ، فالمثقف من خلال انتمائه إلى الطبقة
البروليتارية مثلا يسعى إلى تحرير المجتمع من وحشية العلاقات القائمة في سياق
النظام الرأسمالي ، كما أن التماهي مع مبادئ الطبقة والإيمان بها يجعل المثقف
متحررا من أي ضغط أو إكراه ، فدور المثقف ونشاطه الذي يؤديه لصالح الطبقة التي
ينتمي إليها هو الذي يحدد مدى قوة هذه الطبقة ، كما يحدد في الوقت نفسه وضع المثقف
ومكانته داخلها .
قد يكون التزام المثقف
بقضايا جماعة أو طبقة معينة مرتبطا بضغوط السياسة ومغريات المال وهي قضية مطروحة
في عصرنا الحاضر ، فانتماء المثقف إلى مؤسسة إعلامية معينة تجعل منه ناقلا أمينا
لمبادئها وأهدافها مهمشا بذلك آراءه وتصوراته ، لأنه ببساطة باع كفاءته ، ونذر
نفسه وعقله لهذه المؤسسة ، إن الفاصل في هذه القضية هو اتفاق أيديولوجية المثقف مع
أيديولوجية المؤسسة والقائمين عليها ، لكن الأمر ليس هينا فالمثقف اليوم صار
مترنحا في اختياره بين رزقه ومبادئه ، وكثيرا ما يختار الرزق – قبل الفلسفة –
لإثبات الوجود .