سفيان
ميمون
يمكن لأي منا أن يعثر
بسهولة على مفهوم المجتمع المدني ، فالمفهوم المتداول يشير إلى أنه مجموع المنظمات
والجمعيات والنقابات وسائر الهيئات التي تعبر عن آراء المواطنين وتسعى لتلبية
حاجاتهم ،وقد كان لهذا المفهوم مسار طويل في اكتسابه لمعناه المعاصر ، كما شهد جدالات
وآراء منذ العصور القديمة إلى يومنا هذا سواء في شقه المجرد أو في شقه الواقعي .
يرجع الكثير من المفكرين
مفهوم المجتمع المدني إلى العصور القديمة حيث شكلت آراء وأفكار سقراط وأرسطو خلفية
أساسية لتحديد هذا المفهوم ودفعه إلى الأمام ، فالذي يعبر عن حالة التمدن لدى
سقراط مثلا هو استخدام طريقة الجدل والحوار في حل الخلافات التي تحدث بين الأفراد
داخل المجتمع ، كما يكون المجتمع مدنيا بإشراك المواطنين في الحكم لدى أرسطو.
غير أن الفترة التي يرجع
إليها كثير من المفكرين نشأة المجتمع المدني بمعناه الحالي هي فترة العصر الحديث،
حيث تم الانتقال من نظام اقتصادي استغلالي تراتبي يستمد قوته من الهيمنة الدينية
إلى نظام جديد تبنى مسار الحداثة بالانفتاح على العقل والدعوة إلى الحقوق السياسية
والمدنية ، وقد كان هذا خصوصا بفضل حركة الاصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر
وجان كالفن ، وكذلك الحركة العقلانية التي جعلت من الفرد محور كل فهم وأساس كل عمل
.
سمي هذا العصر الذي أتى
بهذه الحركة العقلانية بعصر التنوير ، لقد كان عصر التنوير بحق عصر انفجار الأفكار
والمبادئ السياسية ، كما شكل قطيعة كبرى مع النظام الفكري والاجتماعي السابق ،
لهذا وصف المجتمع الذي ترافق مع عصر التنوير في أوروبا بالمجتمع المدني ، فهو
العصر الذي انتقل فيه المجتمع الأوروبي من حالة العبودية الفكرية والخضوع لما
يمليه رجال الدين إلى حالة الحرية الفكرية والخضوع للقانون باعتباره سيدا على
الجميع.
بدأت أولى ملامح المجتمع
المدني المنشود تتبلور مع فلاسفة العقد الاجتماعي من خلال طرح فلسفي يقدم لنا
المجتمع المدني في صورة مقابلة ، حيث قابلوا بين الطبيعة كحالة افتراضية وهي تمثل
الوحشية والتخلف وسيطرة الناس بعضهم على
بعض والمجتمع كحالة منشودة مختلفة عن حالة الطبيعة ، فالمجتمع أو بالأحرى المجتمع
المدني عند فلاسفة العقد الاجتماعي ( هوبز ، لوك ، روسو ..) يختلف عن حالة الطبيعة
التي تتجلى فيها همجية الأفراد ونزعتهم للتسلط والتملك ، لكن المجتمع المدني ليس
كذلك فهو مجتمع يحكمه القانون وتسوده العدالة الاجتماعية ، ولهذا لابد من الانتقال
من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع من خلال تعاقد أفراد المجتمع على التخلي عن بعض
حقوقهم لصالح الجماعة ولصالح السلطة السياسية ، وبهذه الطريقة يكون هؤلاء الأفراد
مشاركين في هذه السلطة التي تعبر عنهم جميعا .
تمثل المرحلة التي دارت
فيها أفكار فلاسفة العقد الاجتماعي ما سمي بالمرحلة التأسيسية ، هذه المرحلة التي
شهدت مقابلة الطبيعة من جهة والمجتمع أو المجتمع المدني من جهة ثانية ، دون أي
تفريق بين المجتمع المدني أي " مجتمع المواطنين" وما يمكن تسميته "
بمجتمع الحكام" أو المجتمع السياسي ، هذه التفرقة التي أقامها هيجل فيما بعد
حيث فرق بوضوح بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي ( الدولة) ، غير أن هذه
التفرقة التي أقامها هيجل لا تبعث على الانفصال ، بل إن هناك اتصالا وثيقا بين
المجتمع المدني والدولة ، فالدولة عنده ضرورية لتنظيم المجتمع المدني عن طريق
تطبيق القانون والسبب أن المجتمع المدني ذاته هو مجال للصراع بين عناصره المختلفة.
وقد تعزز مفهوم المجتمع
المدني مع ماركس الذي طابق وبخاصة في كتاباته المتأخرة بين مفهوم المجتمع المدني
ومفهوم البنية التحتية ليكون مفهوم البنية الفوقية معبرا بالضرورة عن المجتمع
السياسي أو الدولة التي بيدها سن القوانين وتوجيه القيم والمبادئ الأخلاقية ، لكن
أنطونيو غرامشي ذهب أبعد من هذا حينما ثبت بنيتين فوقيتين وليس بنية فوقية واحدة ،
فالمجتمع المدني من منظور غرامشي هو مجموع المنظمات والهيئات التي تسمى حرة ، لكنه
لا يرى أنها كذلك لأن هذه المنظمات والهيئات أصبحت في يد الدولة تستخدمها في
السيطرة على أفراد المجتمع ، فبدل أن تكون هذه المنظمات خادمة للمجتمع الذي أنتجها
لصالحه تم استيعابها وأصبحت خادمة لمصالح المجتمع السياسي ، ولهذا يكون لدينا بنية
فوقية أولى ممثلة في الدولة التي تفرض هيمنتها على أفراد المجتمع ، وبنية فوقية
ثانية هي هذه المنظمات والهيئات التي تهيمن بواسطتها الدولة أيديولوجيا، فهذه
المنظمات هي أدوات أيديولوجية ، أي منتجة للقيم والمعايير المتناسبة مع مصالح
المجتمع السياسي ( الدولة) والتي تستخدمها في توجيه أفراد المجتمع.
لكن وبغض النظر عن قضية
استيعاب الدولة لهذه المنظمات والهيئات ، فإن لها دورا مهما في مراقبة الدولة كي
لا تتغول على المجتمع بما يؤدي إلى الاستبداد ، كانت هذه نظرة صاحب كتاب "
الديمقراطية في أمريكا" ( ألكسيس دي توكفيل) الذي يرى أنه لابد أن تكون ثمة
عين فاحصة دورها مراقبة الدولة من أجل تعزيز الديمقراطية ، وذلك ما وقف عليه
بانبهار شديد في أمريكا حينما لاحظ العدد الهائل من الجمعيات التي ينشئها الناس في
مختلف القطاعات .
وقد استقر مفهوم المجتمع
المدني اليوم على كونه مجموعة من التنظيمات ( جمعيات ، منظمات ، هيئات مختلفة..)
تدل على انتظام الأفراد ووعيهم بضرورة العمل الجماعي وتعطي الانطباع بالرقي
والتطور داخل المجتمع ، ويشترط في هذه التنظيمات لتكون ممثلة للمجتمع المدني شرطان
أساسيان : الأول هو أن لا تكون تابعة للحكومة لتضمن التعبير عن المجتمع المدني لا
السياسي ، والثاني هو أن لا تكون ذات أهداف ربحية لضمان خدمة أفراد المجتمع الذين
تمثلهم وليس خدمة مصالها الخاصة.
تعمل منظمات المجتمع المدني
بالضرورة على مراقبة الدولة لمنع الاستبداد ، هذا الذي وقف عليه توكفيل في أمريكا
، لكننا سنجد بالنتيجة وفي المجتمعات المتخلفة التي يمارس فيها الاستبداد ليل نهار
مراقبة دائمة من قبل الدولة لهذه المنظمات ، ليس بالمعنى الذي طرحه هيجل ، حيث تراقب
الدولة منظمات المجتمع المدني تطبيقا للقانون ومنعا للصراع بين عناصر المجتمع
المدني ، ولكن بالمعنى الذي طرحه غرامشي ، حيث يتم احتواء منظمات المجتمع المدني
كي تصبح في يد الدولة ، تؤمن بواسطتها سيطرة الحكام وترعى مصالهم .
تشكل نظرة غرامشي مقاربة
جيدة للواقع الذي تعيشه المجتمعات المتخلفة حيث تعبر بصدق عن كيفية إنشاء المنظمات
في هذه المجتمعات وعن سلوكها وأيديولوجيتها ، فكثيرا ما يتم عرقلة المنظمات
والجمعيات التي تتضح معارضتها للأنظمة السياسية القائمة ، كما يتم استيعاب أعضاء
هذه المنظمات وقادتها على وجه الخصوص ، ولا عجب أن تجد من يتبجح بأن هذه النقابة
تابعة للدولة !!، هذا التناقض الذي تبيحه طبيعة المجتمعات المتخلفة وطبيعة الثقافة
السائدة والتي يتم تداولها وتوجيهها بفعل القهر الذي تمارسه الأنظمة في شكله
المادي والرمزي.
إذا كانت المجتمعات الغربية
قد خطت خطوات جبارة في سبيل تكريس المجتمع المدني وترسيخ قيم الديمقراطية ، هذا
الذي تطلب منها قرونا من الزمن وعبر تراكمية فكرية غير مسبوقة ، فإن المجتمعات
المتخلفة ومنها المجتمعات العربية الإسلامية مازالت بعد لم تحقق فكرة المجتمع
المدني على أرض الواقع ، وقد سمعت أحد الأساتذة يقول بشيء من التهكم والتشاؤم
معا:" لا وجود لمجتمع مدني عندنا ، كل ما هو موجود هو مجموعة من " أولاد
الحرام " ( مجموعة عصابات) تسير بعض المنظمات لخدمة مصالها الخاصة " ،
هذا الذي يسقط أحد الشرطين الذين ذكرناهما لقيام ما يسمى بالمجتمع المدني وفقا
لهذه الرؤية وهو ألا تكون لهذه المنظمات أهداف ربحية ، أما الشرط الثاني الذي
يتمثل في عدم تبعيتها للحكومة فإنه غير محقق بالشكل الكافي في المجتمعات المتخلفة
، خاصة حينما ننظر إلى الطرق التي يتم من خلالها اعتماد هذه المنظمات والجمعيات
وأساليب مراقبة المناضلين والأفكار التي تتبناها ، ما يضع حرية هذه المنظمات
واستقلاليتها تحت المجهر ، ورغم هذا فإن حضور الكثير من المنظمات والجمعيات ضمن
النشاطات والأعمال الخيرية قد أعطى الانطباع بوجود مجتمع مدني منظم ومهيكل ، غير
أن المجتمع المدني يتعدى قيام بعض التكتلات بالأعمال الخيرية ومساعدة المحتاجين
إلى ضرورة تجسيد القيم الأساسية التي يترسخ من خلالها المجتمع المدني مثل
الديمقراطية وسيادة القانون وحرية التعبير ..الخ
نشر في موقع الحوار المتمدن-العدد: 7162 - 2022 / 2 / 14