سفيان ميمون
تعبر الاحتجاجات الشعبية في جملتها عن رفض للوضع السائد وتطلع لإصلاح كل فاسد ، وهذا شأن احتجاجات جنوب الجزائر إذ هب الشباب للتعبير عن سخطهم حيال وضعهم المعيشي ، كما عبروا في الوقت نفسه عن أملهم في تغيير هذا الوضع نحو الأحسن .
لقد وجد هذا الوضع آذانا صاغية لدى المسؤولين – وهي نقطة تحسب لهم – فقد حاولوا التجاوب مع الشباب من خلال ما أبدوه من تفهم تجسد في جملة من الإصلاحات والمشاريع ، وكانت إحدى أهم هذه المشاريع - في رأيي- هي فتح أقسام للطب في بعض مدن الجنوب .
لكم نحن بحاجة لفتح معاهد للطب في الجنوب والشمال بل وفي كل ولاية من ولايات الجزائر فقد فتكت بنا الأمراض وأحاطت بنا من كل جانب ، خاصة الأمراض التي لها علاقة بضغط المحيط الاجتماعي كضغط الدم ومرض السكر...، كما أننا بحاجة لفتح معاهد للقانون في كل مدينة فقد أضحت مدننا أوكارا للمشكلات والجرائم مما يلزم تدقيق التخصصات القانونية لتكون موافقة لأنواع الجرائم التي تجتاح مدننا ....
لكن هل هذا ممكن من الناحية العملية ؟ لقد انتشرت التخصصات المختلفة في شتى جامعات الوطن حتى انتفى المعنى الحقيقي لكلمة " جامعة " التي تشير إلى اجتماع الطلاب من أماكن مختلفة في مكان واحد لدراسة تخصص واحد ، فتكون الغاية الأسمى من هذا الاجتماع هي تلاقح الأفكار وتبادل الاهتمامات والتعرف على العادات ، ناهيك عن اجتماع إطارات التدريس العليا في هذا المكان الجامع ، والواقع يحيلنا اليوم على معاهد وأقسام فتحت ومضى على فتحها وقت طويل غير أنها لا تملك التأطير الكافي لتخريج طلاب مؤهلين في التخصص ، وبعض هذه الأقسام لا تملك أستاذا واحدا يحمل درجة دكتوراه .
قد لا نبالي بمستوانا الضعيف في القانون والاجتماع والسياسة لأن هذه التخصصات عندنا شكلية وثانوية وهي عند غيرنا أساس لتقدم المجتمع وحمايته من التفكك ، ولأن هذه التخصصات والمجالات لا تمس بدن الانسان بشكل مباشر بل تتصل بروحه ، هذه الروح التي لا نحس بها لأننا مازلنا بعد لم نحقق وجودنا المادي ، أما الروح وإن كانت في جوهرها أساسا للوجود المادي إلا أن اهتمامنا بها مازال مؤجلا إلى حين .
قد لا نبالي بمستوانا الضعيف في هذه المجالات لكننا سوف نثور كما تثور الثيران بمجرد أن تمسنا شوكة صغيرة في بدننا ، فأي انحطاط في مجال الطب سيبدو ساطعا كالشمس ، لذلك رأينا انتشارا لمختلف التخصصات الأدبية والاجتماعية في مختلف جامعات الوطن ، غير أن الطب بقي محصورا في جامعات كبرى تتوفر على إطارات عليا في التخصص، إنها شعرة معاوية التي تم الحفاظ عليها لزمن ما ، لكننا نرى هذا الزمن في إدبار ، لم يعد الطب مهما كما كان ، لم يعد بدن الانسان مهما ، لقد هان أيضا كما هانت روحه من قبل .
ماذا يعني فتح أقسام أخرى للطب في جامعات جزائرية أخرى ؟ قد يعني ذلك لدى طالب شاب حديث عهد بالجامعة أو لدى عائلته الفقيرة " تقريب الجامعة من الطالب " على منوال " تقريب الإدارة من المواطن " كما قد يعني لدى مسؤول ما التخلص من مشكلة تجاوز عدد الطلاب طاقة مرافق الإطعام والإيواء والتمدرس ، لكنها تعني في الواقع فتح تخصصات بدون متخصصين أي بدون إطارات عليا تعطي تكوينا محترما للطلاب ، وهذا ما يعني إلحاق تخصص الطب الذي بقي محافظا على شيء من المستوى بباقي التخصصات الأخرى التي تم تمييعها لسبب أو لآخر .
إن تمييع العلوم الاجتماعية مثلا يفيد في إفراغ التخصص من محتواه أي تخريج طلاب بشهادات هم دونها علميا فيغيب عنهم التحليل الصادق في مجال تخصصهم ، لكن تمييع الطب إنما هو تحطيم لآخر قلعة في الإنسان طالما أن قلعة الروح قد حطمت فلم يبق إلا البدن والسلام عليك أيها الإنسان .
لقد استنكر الدكتور أبو القاسم سعد الله في بداية الثمانينات سياسة نشر الجامعات في كل ولايات الوطن ورأى أنه إن كان ثمة ضرورة لذلك أن تختص كل جامعة بتخصص يلتف حوله الطلبة من مختلف مناطق الوطن ، كما يجمع هذا التخصص إطارات البلاد العليا حتى تكون تلك الجامعة باجتماع احسن إطارات البلاد لديها منارا حقيقيا في ذلك التخصص .
لقد كانت عين الدكتور سعد الله هي عين الخبير الذي يروم رفع مستوى الجامعة بأساتذتها وطلابها لكن صوته بقي خافتا لأن صوت السياسيين كان أعلى من صوته .
السياسي هو المنظر وليس الخبير وهذه مأساتنا لأن السياسي وإن كانت نيته حسنة فهي غير كافية لأنه يروم حل المشاكل الظرفية التي تعيق عمله فيعمد إلى بعض الاجراءات لإعادة النظام الاجتماعي دونما نظر فيما تؤدي إليه هذه الاجراءات .
هذه الاجراءات التي تتخذ اليوم لا تختلف عن الاجراءات التي اتخذت في سياق إصلاح المنظومة التربوية والجامعية ، فعندما كان الكثير من الخبراء يعددون الأسباب التي قد تجعل من نظام LMD نظاما فاشلا كان صوتهم خافتا أيضا لأن صوت راكبي السياسة في الجامعة كان أعلى ، وعندما كان الكل من صحافة ومجتمع مدني وخبراء في التربية ينددون بإصلاحات بن زاغو رأى النافذون في السياسة أن هؤلاء قد زاغو عن الحق ومالهم من حق ، فقاموا بما رأوه حقا حتى وصلنا إلى ماوصلنا إليه .إنها الإصلاحات المنشودة على الطريقة المعهودة ، فليس لنا إلا أن نصبر ولا نستغرب أي إصلاح بل علينا أن نتوسم فيه كل فلاح !!