رغم أن العالم الغربي يعيش جوا من الديمقراطية السياسية التي خولت له التفاخر والتطاول والإعتداد بتنصيب ذاته مركزا للتحكيم وتنفيذ إجراءات الثواب والعقاب السياسي والعسكري على باقي الشعوب إلا ان هذه الديمقراطية السياسية – كما يبدو من أحداث لندن الأخيرة – لم ترفق بديمقراطية اجتماعية تتقارب خلالها حظوظ الأفراد ومستويات عيشهم ، بل إن الظاهر هونوع من الحقد الإجتماعي من طبقات ضد طبقات أخرى ، وإلا ماهو التفسير الذي يمكن اعتماده في عمليات الهجوم المنظمة ضد المراكز التجارية الكبرى بدل الهجوم على مؤسسات حكومية سيادية أو أمنية .
قد تكون هذه المؤسسات محصنة أمنيا بحيث يصعب النيل منها بنفر من مثيري الشغب ، لكن ذلك لا يبرر البتة هجوم الشعب ضد الشعب إذا كان المشكل هو نظام الحكم الذي لم يوفق في إتاحة الفرص أمام الشباب من أجل العمل والعيش بشكل أفضل .
ربما يكون الشكل الأفضل للعيش وحده الدافع أمام تنامي ثروات أفراد وطبقات وانحسار هذه الثروة لدى أفراد وطبقات أخرى من الذين لم يكن لهم حظ الإندماج في سيرورة اللعبة الرأسمالية المتوحشة التي رمت بهم إلى أطراف المجتمع – حسب نظرتهم طبعا – لأن المجتمع الرأسمالي لا يصنع فقط الفوارق الاجتماعية ، إنه يقوم بهذا فعلا ولكنه أيضا يصنع نظرة الطبقات التي يصنع واهتمامها وتفكيرها وسلوكها .
لقد شكلت تركيبة النظام وطبيعة العلاقات السائدة ذهنية الفرد وسلوكه وثبت أن النزعة المادية التي كرستها الرأسمالية تعمل اليوم على هدم المجتمع وخلخلة النظام من خلال الإحساس المتزايد بالتفاوت المادي لدى الطبقات التي لا تملك كالآخرين الذين سمح لهم السياق الإجتماعي بزيادة أموالهم وبالتالي زيادة مكانتهم وسلطتهم ونفوذهم .
إن إلغاء النزعة المادية لكل روحانية جعل هم الشباب الثائر الحصول على الأموال وإن كانت حين عدها دراهم معدودات ، كما بدا على شاشات التلفاز لشاب ماليزي كان ينزف دما إثر سقوطه جريحا ، وقد بادرت مجموعة من الشباب لإسعافه ، لكن هؤلاء الشباب – كما أظهرتهم الكاميرات – بادرو إلى أخذ الأموال التي كانت معه من حافظته .
الهم هو المال وليس شيئا آخر ، الهم هو العيش الأفضل كالآخرين والقدرة على شراء كل متاع مما تنتجه التكنلوجيا الحديثة وليس شيئا آخر ، لا تهم حالة هذا الشاب المتألم وإن كان معهم في الصف ، لقد غابت كل روحانية وإحساس بالآخر ، نفسي نفسي ، ليس شعار الناس في الآخرة حينما لا تجد سوى محمد صلى الله عليه وسلم ينادي: أمتي أمتي ،ولكنه شعارهم في الدنيا وفي بريطانيا تحديدا كنقطة من نقاط الرأسمالية الرئيسة .
السرقة والنهب عمل مشين وهو في نظر القائمين على دولة بريطانيا العظمى كذلك ، لكن الذي دفع إلى هذا السلوك هو طبيعة النظام القائم ( النظام بمعناه العام وليس فقط النظام السياسي ) الذي أفرز أخلاقا من جنسه وضعت قيد التنفيذ ، فمن العجب أن ينتج هذا النظام أخلاقا ويهيء ذهنيات ويصنع اهتمامات وأذواق ثم يستغربها حينما تتحول إلى سلوكات ويستهجنها وهي من صلبه .
لقد كان النظام الرأسمالي عماد التطور التكنلوجي الحاصل ، فأسهم في تطوروسائل العيش ووسائل الموت ( الأسلحة ) على حد سواء ، وسائل الإتصال والإعلام والنقل وغيرها ..، مما قلل من عناء الإنسان في الوصول إلى ما يريد ، رغم أن إرادة الإنسان ورغبته زادت مع زيادة وانفجار هذه الوسائل ، فلم يعد همه لقمة عيش فحسب ، نعم لم تعد الرفاهية تقاس بتوفر رغيف خبز يؤكل ومسكن يؤوى إليه ، ولكن الرفاهية اليوم في عصر التكنلوجيا هي اكتساب كل جديد ، والتمتع بمزاياه والتفاخر به ، من أجل ذلك أصبحت التكنلوجيا تمثل إغراء حقيقيا تستدعي التضحية من أجله ولو باللجوء إلى النهب والسرقة في غياب دخل كاف لتوفير كل مرغوب فيه مما ينتج .
هكذا أكلت التكنلوجيا الإنسان وأضحت أصلا له بدل أن يكون هو الأصل والمحور الذي ينتج القيم والمعايير ، لقد أصبحت الحضارة الغربية الحديثة القائمة على المادة هي المحور الذي ينتج هذه القيم ، فالإنسان كما يرى " هربرت ماركيوز" أصبح تابعا لمقتضيات هذه الحضارة التي فرضت عليه منطقها ، فأصبح يتصرف بمقتضاها بدل أن يوجهها بمنطق " الإنسان " ، من أجل هذا فقد الفرد كل روح و أصبح منطق المادة المتحكم الوحيد في فعل وسلوك الفرد .
قد تختلف أحداث بريطانيا عن الأحداث القائمة في الشرق ، فواقع لندن يختلف عن واقع تونس والقاهرة وطرابلس ودمشق وصنعاء ولكن ذلك ليس مطلقا ، فالحضارة الحديثة وهي حضارة مادية جعلت من العالم قرية صغيرة كما يرى " ماكلوهان " يتعولم فيه كل فعل وكل سلوك وكل اهتمام ، فلا غرابة أن يتعولم اهتمام الفرد بإسقاط كل نظام يقف أمام رغبته في العيش الكريم والرفاهية والقدرة على توفير ما تجود به التكنلوجيا الحديثة وإن اختلف هذاالنظام من قطر إلى قطر ومن بلد إلى آخر ، هكذا فسواء كان النظام الذي يراد إسقاطه نظام حكم طاغ أو نظام رأسمالي متوحش ، فإن عصر التكنلوجيا أخرج لنا نواميسه التي يجب أن نعرفها جميعا وهي أن تفكير الإنسان وسلوكه أصبح خاضعا لمقتضيات الواقع المادي الذي ساهمت في صنعه الحضارة الرأسمالية الحديثة .
نشر المقال بصحيفة القدس العربي عدد6903 في 22أوت 2011الرابط / http://alquds.co.uk/index.asp?fname=today\21j468.htm&arc=data\2011\08\08-21\21j468.htm