سفيان ميمون - الجزائر
كان علي شريعتي قد نبه إلى عملية الاستحمار التي تتعرض لها الشعوب من قبل الحاكم المستبد،فهذا الحاكم لايثنيه شيء عن الاستمرار في ابتداع السبل والكيفيات التي يطيل بهامدة حكمه من خلال تغييب العقل في عقله وطبع المجتمع بطابعه وشكله ، و هو الأمر ذاته لدى الكواكبي الذي حاول إيضاح سبل الراعي في إخضاع الرعية وجعلهم تحت سلطته في كل تفاصيل الحياة .
لايبد و ثمة اجحاف إذا قلنا أن الصفات الملازمة للحاكم العربي اليوم هي ذاتها الصفات التي طالما ظلت ملتصقة به منذ زمن بعيد ، ولاعجب أن يتغير الزمن ولا تتغير الصفات الملازمة للحاكم ، إذ أن الحاكم نفسه هو الذي كان وهو الذي أصبح وهو الذي يريد أن يبقى ويخلد ، لكن هيهات ...فقد نما الوعي وانفجرت المعرفة ، إنه مجتمع المعرفة الذي نحياه ، لم تعد تكفي الهراوات من أجل تمرير سياسة أوتثبيت قانون ، ولم تعد تكفي أيضا الأيديولوجيات الجاهزة ، با عتبار ضرورة المزج بين ماهو قمعي وماهو أيديولوجي كما هي نظرة ألتوسير الذي يرى أن الدولة تحتاج من أجل بسط سيطرتها إضافة إلى أجهزتها القمعية كالشرطة والجيش ...إلى أجهزة أخرى غير مادية ، أجهزة أيديولوجية تسوق ضمن محتويات القانون والسياسة ومناهج الدراسة ...، لم تعد الأيديولوجيا الجاهزة كافية إذن لأن هناك غربالا جديدا هو غربال الوعي الاجتماعي الذي اتجه اتجاها نقديا مستمدا هذا الاتجاه من التناقض الواضح والصريح بين ما يقال في د وائر الحكم وبين الواقع الفعلي والحقيقي ، ومستمدا إياه كذلك من معرفة الواقع في كليته وشموليته ،هذا الواقع الشامل لكل الجغرافيا وكل التاريخ وكل السياسة وكل العلاقات بين الحكام والمحكومين والحكام والحكام والمحكومين أنفسهم ، إن المعرفة بالواقع في شموليته هي معرفة بجزئيات هذا الواقع وهي بذلك معرفة بسياسات حاكم من الحكام أو نظام من الأنظمة.
لم يتغير كثير من حكامنا العرب منذ زمن طويل ، ولم تتغير أنظمة الحكم كذلك ، بينما تغير المجتمع وتغيرت ثقافة الأجيال ، فثقافة "الرعية " اليوم تشكلها قيم جديدة تختلف تماما عن القيم التي حكمت مجتمعات سابقة لم تعش هذا التدفق الهائل للمعلومات والمعارف ،لقد ثبتت هذه المعارف نفسها سلطة بديلة عن السلطة التقليدية ( السلطة السياسية) حيث أصبحت تفرض نفسها على إنسان العصر الحاضر فيستمد منها هوأيضا سلطته في التعاطي مع الواقع و وعيه و العمل على تجاوزه .
لقد تمادت الأنظمة العربية في ممارسة مختلف أشكال الاستحمار و الاستخفاف بالعقل في مختلف الحقب و الفترات و حتى في أحلك الأوقات التي تعيشها ، و خاصة الأوقات التي يبرز خلالها نمو واضح للوعي الاجتماعي ، فقد رأينا كيف حاول الرئيس المصري التمادي في سياسة الاستحمار من خلال خطابه الذي أعقب الثورة الشعبية المناهضة لحكمه حيث أعلن عن إجراءات "في غاية الأهمية" و هي إقالة الحكومة القديمة و تعويضها بحكومة جديدة هادفا من وراء ذلك إلى إسكات الأصوات التي خرجت إلى الشارع مطالبة بتنحيته عن الحكم ،لكن سعيه هذا ذهب في مهب الريح لأن الجماهير الثائرة لم تأت للتجمهر والتظاهر و هي مدفوعة بالخبزو الحليب كما كانت عليه الحال في السابق ....و إن كان الخبزو الحليب و تحسين الوضعية الاجتماعية من المطالب الأساسية لهذه الجماهير، و لكنها مدفوعة بالوعي المستمد من الانفجار الهائل للمعرفة و المعلومات و الدور الرهيب الذي أصبحت تلعبه وسائل الإعلام و الاتصال في كشف الواقع الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي و تزويد "الرعية" باخبار كافية عن " الراعي" أي توعيتهم بحاله وبحالهم أيضا من خلال معرفة من يحكمهم ، وكيف يحكمهم، وماذا يريد من وراء حكمه إياهم ، ثم إن نظام سيادة الرئيس يوغل في سياسة الاستحمار من خلال عدم الاستجابة للمطالب الشعبية الداعية إلى رحيله و ابتكار و ركوب سياسات جديدة لعلها تحفظ له ولزمرته كرسيه الدافيء من طول مدة جلوسه على هذا الكرسي ، من هذه السياسات و التي انتبه إليها كثير من المحللين والتي انتشرت عبر وسائل الاعلام خلق فئة من الأفراد و حثهم على التظاهر تظامنا مع الرئيس ثم تثوير هذه الفئة من أجل إيهام الرأي العام( استحمار الرأي العام) بشدة تمسك طرف من الشعب المصري بهذا النظام ، لكن الانفتاح على التكنولوجيا وقوة وسائل الاعلام و سرعة انتشار المعلومة فضح سياسة سيادة الرئيس فعاد الاستحمار على النظام ، وأصبح العالم كله يضحك على هذه السياسات الساذجة ، فالكبير و الصغير والرجال و النساء كلهم يضحكون و يتهكمون على هذه السياسات الواضحة الشفافة ، لقد عاد الاستحمار معكوسا : الجمهور الواقع تحت سلطة المعرفة يعمل بوعيه المكتسب على استحمار حكامه .