الاثنين، 14 ديسمبر 2009

التجليات العامة للثقافة و المثقف


سفيان ميمون
تمهيد:
العلاقة الجدلية بين الثقافة و المثقف و بين كليهما من جهة و نواحي أخرى في الحياة الإنسانية واضحة في مختلف تمظهرات الواقع المعيش في الاجتماع و السياسة و الدين و في مختلف نواحي الحياة الأخرى ، فالثقافة شاملة جميع المجالات و هي في تفاعل دائم معها تكيفها حينا و تتكيف معها أحيانا أخرى ، و الثقافة متبدلة من مجال إلى مجال بحسب قوى الجذب المتصارعة التي تفرزها من واقع مؤثر و فارض لجملة من المعطيات و الخصائص الثقافية إلى مفكرين ساعين إلى تكييف هذا الواقع وفق نظرة معينة يرونها عين الصواب .
و الثقافة و المثقف وجهان لشئ واحد حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر ذلك أن المثقف إنما يحصل ثقافة و بها يعمل و يسعى لتوجيه هذه الثقافة ذاتها أو أن يمارس عملية النقد الثقافي أو يكون رسولا ناشرا لها أو أن يتخذ منها موقفا ، فالثقافة إذا هي عملة المثقف في التعامل و التعاطي مع مختلف الظواهر في المجالات كلها ، و جملة القول أنه لا ثقافة بدون مثقف كما أنه لا مثقف بدون ثقافة فكلا الطرفين دعامة لقيام الآخر، و الحياة اليومية تدلنا على مختلف تجليات الثقافة و موقع المثقفين في ذلك على المستويين النظري و العملي ، و حسبنا في هذا العنصر أن نستقصي بعض هذه التجليات مع محاولة وصف لوضع المثقف و دوره و محاولة بيان العلاقة بين الوضع الذي يحتله و الدور الذي يجب أن يؤديه.
1- تجليات الثقافة بين الفكر والواقع :
تتجلى الثقافة في مجال الفكر كما تتجلى على مستوى الواقع أيضا فحينما ننظر إلى الواقع بمختلف جوانبه نجده منتجا هاما للثقافة فالواقع يفرز قيما يؤمن بها الأفراد و تصبح معتقدا سائدا يعاودون طرحها من جديد كثقافة و الدلائل على ذلك كثيرة على المستوى الواقعي ، فحينما تنتج السوق قيما معينة يأخذها الباعة ويتداولونها فتصبح جزءا لا يتجزأ من أذهانهم ، و مثل ذلك القيم التي تنتجها الملاعب و المقاهي والشوارع و غيرها .
و تنظيريا كانت الاشتراكية تؤمن بأن البنية التحتية تتحكم في البنية الفوقية أي أن الواقع هو الذي يصنع الأفكار التي تسود المجتمع ، ففي تقريره لهذا يوضح كارل ماكس كيف تعمل البنية التحتية ممثلة في الاقتصاد و ما يضمه من ممارسات ميدانية على خلق وعي الناس بأحوالهم في شتى المجالات فيقول في كتابه " مساهمة في نقذ الاقتصاد السياسي " : " إن نمط إنتاج الحياة المادية يكيف سيرورة الحياة الاجتماعية و السياسية و الفكرية بصفة عامة و ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم بل يحدد وجودهم الاجتماعي وعيهم "
[1] .
و الواقع أن ما جعل النظرية الماركسية تسلك هذا المنحى في تحديد أسبقية المادة على الفكر إنما هو الواقع ذاته حيث فرض هذا الواقع الذي يتسم بكدح الطبقة العاملة وعلاقات السيطرة والاستعباد التي كان يمارسها في حقهم أرباب العمل من الرأسماليين على مفكري الاشتراكية و منهم ماركس على تجاوز هذا الواقع من خلال التنظير لثورة شيوعية تطيح بالنظام الرأسمالي وتحقق العدالة الاجتماعية .
و يذكر سمير أمين أن " فلسفة القرن التاسع عشر في أوروبا... مالت إلى إنكار استقلالية المجال الأخلاقي فظهرت مبسطة تقول : إن الميول و القيم الأخلاقية إنما هي مجرد انعكاس لأوضاع و حاجات اجتماعية "
[2] فلقد فرض الواقع نفسه كمصدر أول للقيم و الأخلاق و سائر أشكال الثقافة متنكرا بذلك لمختلف التمويهات القيمية التي سادت أوروبا قبل ذلك كنتيجة لمحاولة الكنيسة و أذنابها بسط سيطرتها على المجتمعات الأوروبية باسم الدين و الأخلاق .
لا أحد إذا ينكر الواقع كمصدر للأفكار و القيم و لكن المكيف لها بشكل مباشر إنما هو المفكر والمنظر و المثقف و عليه كان الفكر أيضا مصدرا هاما للإبداع الفكري و إنتاج القيم و عليه برز من يقول بأسبقية البنية الفوقية في الإنتاج الفكري و الثقافي حيث المثقف هو صانع الوجود و المكيف له و هذا ما نحاول بيان بعض أوجهه خلال النقطة الآتية التي نحلل فيها دور المثقف .
و يكفينا هنا أن نبين علاقة الربط بين الواقع و الفكر إذ أن ثمة علاقة جدلية بينهما حيث تبرز الثقافة و تتجلى خلال هذه العلاقة فهيجل يقرر أن هناك " صيرورة للفلسفة تصير عالما ( أي أحداثا اجتماعية ) و هناك صيرورة للعالم يصير فلسفة ( أي أفكارا ) "
[3] ، إذا الواقع يفرز قيما ثقافية و يدعوا المفكر إلى التأمل فيه و الفكر يكيف الوجود و يعدله و يصنعه ، فالواقع و الفكر ليسا منفصلين كما أن اتصالهما أيضا لا يصل إلى حد المطابقة .
فالثقافة هنا بارزة في هذا الجدل القائم بين الفكر و الواقع لكنها تبقى ثقافة مشوهة و غير صادقة ما لم يتعاط الفكر مع الواقع باتخاذ أدوات خاصة تمكن من إفراز ثقافة أقرب إلى الصحة أو القبول منطقيا وهذه الأدوات لا تتجاوز عمليتين أساسيتين حسب محمد عابد الجابري هما " أولا تحليل الواقع تحليلا يهدف إلى الكشف عن بنيته ، إلى استخراج ثوابته و متغيراته و استخلاص نموذجه الصوري ، و ثانيا تحليل الصورة المرآوية
· المهشمة ، أي صورة الواقع " العامية " كما تنعكس في وعي الناس- مطلق الناس- و إعادة مفصلتها و ترتيب العلاقات بين أجزائها لاستخلاص صيغتها " العالمة " أي الصيغة التي تؤسس الوعي الطبقي الصحيح"[4].
وتتجلى الثقافة في عمليات الاستهلاك و الإنتاج اليومي لها و هي أيضا جدلية قائمة بذاتها فعمليات الإنتاج الثقافي لا تتم دون استهلاك للثقافة ، فالثقافة تتجلى في عمليات إنتاج الكتب و نشر الصحف وإذاعة الأخبار و غير ذلك حيث يتلقى الفرد هذه العملية في صورة استهلاك لمحتوياتها و مضامينها ثم يعاود إخراج هذه المحتويات بنفس الصور السابقة و لا سبيل لنا إلا أن نصف كل هذه العمليات بالثقافية ، و هي من الصور التي تتجلى فيها الثقافة ، لكن ألا تعني الثقافة في أرقى صورها الإبداع ؟ ألا يعد إنتاج ما استهلك إعادة إنتاج و دوران في حلقة مفرغة ؟
إن الإبداع هو الحلقة المفقودة لدى أمة تريد أن تنهض و كل ما يطفو على سطح الواقع اليوم إنما هو إعادة إنتاج ما ينتج من ثقافة طالما أن هذه الثقافة لم تقدر على التغيير في الواقع الثقافي إلى أحسن ، وتبقى إعادة إنتاج الثقافة هذه ثقافة في حد ذاتها و هي من الصور البارزة للثقافة في واقعنا اليوم ، يقول خليل أحمد خليل في هذا المضمار : " .... فيما المثاقفة وهم آخر ينضاف إلى أرصدة الواهمين الذين يظنون – مثلا – أنهم ينتجون ثقافة ما ، فيما هم لا يفعلون سوى استهلاك بعضها سواء من المحلي أم من الوطني ( القومي ) وصولا إلى العالمي ، و هو في أصله و واقعه محلي – وطني – معولم بوسائل الهيمنة الأخرى كالأيديولوجيات و الآلات و التقنيات أو الغزوات و الحروب ......"
[5]، و السياسة وجه آخر من الأوجه التي تتجلى فيها الثقافة فعلاقة الثقافة بالسياسة أو بالسلطة بشكل خاص بارزة في الحياة السياسية و الثقافية على السواء حيث يسعى المثقف لاستغلال مركزه لتحصيل امتيازات معينة و يقابل ذلك استغلال السياسي للمثقف لتمرير سياسته و شرعنتها، و هنا تقع الثقافة ضحية هذه العلاقة إذ أن ثقافة أخرى فاسدة تحل محلها فتشغل هذه الثقافة الفاسدة مكان الثقافة التي كان من السليم أن تكون فتنتشر فيتلقاها الجمهور و تسري نتائجها الفاسدة مؤذنة بركود ثقافي يصنعه تماهي المثقف و تبريره لمشاريع السياسي و إن كانت فاسدة ، و هذه هي الصورة التي تبدو عليها الأوضاع الثقافية في غالب أرجاء البلدان المتخلفة ، و تتجلى الثقافة اليوم أيضا في علاقتها بالدين و كيفيات تعاطيها مع العولمة و الغزو الثقافي وموقعها في مختلف الإشكاليات الثقافية على غرار الأصالة و المعاصرة و قضية الهوية .
و تتجلى الثقافة في حالة من السلبية في كثير من المواقع فحينما " يدور عالم الثقافة في فلك الأشياء ، تحتل هذه الأشياء القمة من سلم القيم و تتحول الأحكام النوعية خلسة إلى أحكام كمية من غير أن يشك صاحب هذه الأحكام في انزلاقه نحو " الشيئية " أي نحو تقييم كل الأمور بمقياس الأشياء "
[6] و نحن نرى اليوم أن ثقافة المجتمع مالت إلى تقديس الأشياء و إعطاء الأهمية أكثر للمادة على حساب الروح أو الفكرة.
و من مظاهر السلبية الثقافية "الجمود و التقليدية على الصعيدين الفكري و الاجتماعي و هجوم قيم الريف و البادية على المدينة ،و غياب العقلنة و العلمية ،و التخلف الاقتصادي ،و التعليم التقني ..."
[7]و هي أمراض ثقافية سادت مجتمعاتنا و أصبحت ملازمة له في غياب رغبة حقيقية لمحاولة تجاوز هذه الأمراض .
و يعزي الدكتور سليمان العسكري هذا الجمود و التخلف الذي يعرفه الواقع الثقافي في الوطن العربي بشكل خاص إلى جملة من الأسباب أهمها:"
[8]"
1- غياب الديمقراطية في كافة المجالات السياسية و الثقافية و الاجتماعية .
2- ضعف الترجمة .
3-عدم توفر الكتب بالقدر الكافي خاصة الكتب غير المدرسية الخاصة بالأطفال .
4- ضعف الصناعة الورقية .
و يرى سليمان العسكري أن النهضة الثقافية لا يمكن لها أن تقوم دون بعث هذه العناصر و إحاطتها بعناية خاصة ، ذلك أن هذه العناصر و غيرها هي التي خلقت الفجوة بين الثقافة في الوطن العربي وغيره من الأقطار ففي مسح ميداني لشوقي جلال توصل إلى أن " إجمالي الكتب المترجمة في الوطن العربي منذ الخليفة المأمون و حتى يومنا هذا يصل إلى عشرة آلاف عنوان ، أي يساوي ما ترجمته إسرائيل في أقل من خمس و عشرين سنة من وجودها ، أو ما ترجمته البرازيل في أربع سنوات ، أو ما ترجمته اسبانيا في سنة واحدة تقريبا "
[9] .
و تبقى الأداة الأساسية لمعالجة الثقافة هي الثقافة ذاتها إذ أن بعث ثقافة الجد مقابل ثقافة الهزل و ثقافة المسؤولية مقابل ثقافة اللامسؤولية هي الكفيلة بإعادة الثقافة إلى مكانها الصحيح .
إن مهمة الثقافة حسب محمد محفوظ هي " وقف حالات الانهيار و تحديد مواقع العجز و منع امتدادها الأفقي و العمودي حتى يتسنى للواقع العربي و الإسلامي أن يسترد أنفاسه و توازنه و يبدأ بترتيب أوراقه الاجتماعية و الحضارية "
[10] .
إن التنمية الثقافية تستدعي قبل كل شيء ارتكازها على العلم كقاعدة مؤسسة لها ذلك أن أية تنمية ترجى بعيدا عن العلم لا يمكن لها أن تسلم من الانحراف و هو جوهر الأوضاع التي تعيشها مجتمعات الدول المتخلفة حينما تعمد إلى تمويهات معينة للتدليل على سعيها لتطوير الثقافة لكن هذه الثقافة يؤسس لها بعوارض معينة من مصالح و أهواء دون العلم الذي يرقى بها إلى أعلى الدرجات ، و هو ما يؤكده محمد عابد الجابري في في كتابه " المسألة الثقافية في الوطن العربي " حيث يقول " ... و هكذا فإذا كانت التنمية هي العلم حين يصبح ثقافة " – فإن التخلف سيكون هو " العلم حين ينفصل عن الثقافة " - أو هو " الثقافة حين لا يؤسسها العلم "
[11] ، فضرورة الربط بين الثقافة و العلم هي السبيل الوحيدة للارتقاء بالثقافة.
2 - المثقف وضعه و دوره :
تشكل الأفكار و الفلسفات و العقائد و الأخلاق البنية الفوقية في المجتمع و هي دائمة التأثير على الواقع في جميع جوانبه و يعتبر المثقف وصيا على هذه البنية و هو عمودها الأساسي إذ أنه ينقل الأفكار و القيم و ينتجها و ينقدها و يعدل فيها و يرفضها و كل هذه العمليات تسلم إلى أن المثقف يشتغل على مكونات البنية الفوقية فيتعامل معها و بها ، كما أنه يتفاعل معها أيضا .
و عليه عرف المثقف بأنه " ذلك العامل المنخرط في أعمال معرفية تتطلب بالضرورة استخداما نقديا للعقل"
[12] فالاستخدام النقدي للعقل من سمة المثقف الواعي إذ أن النقذ يتطلب الوعي بالقضايا التي يعمل المثقف على نقذها و الوعي كذلك بأهمية هذا النقذ و ضرورته لحمل صفة المثقف و الاضطلاع بدوره .
والمثقف حسب أسعد دياب هو " شخص يفكر بصورة أو بأخرى مباشرة أو غير مباشرة انطلاقا من تفكير مثقف سابق ، يستوحيه يسير على منواله ، يكرره ، يعارضه ، يتجاوزه ، .....و التفكير تفكير في موضوع ، والموضوع إما أفكار و إما معطيات الواقع الطبيعي ، أو الاقتصادي أو الاجتماعي "
[13]، فقضايا الإيحاء و التكرار و المعارضة و التجاوز إنما هي عين النقذ التي يمارسها المثقف إزاء القضاياالمطروحة فهو يعيد إخراجها بصورة واعية مثلما تقتضيه حال المجتمع كهدف أول للمثقف يراعيه حين ممارسته لعمله النقذي .
ليس المثقف إذا من يكسب أو يستهلك كما محددا من المعلومات و المعارف و لكنه كما ذكر أسعد دياب من يفكر بصورة أو بأخرى و هو ما يسلمنا إلى أن كثرة الاستهلاك المعرفي والظفر بشهادات تعليمية عليا لا يكسبان الشخص صفة " مثقف " و لكن الذي يكسبه هذه الصفة إنما هو التفكير بصوره المختلفة من نقذ و تحليل و تقييم و إضافة و تعديل و غير ذلك من الصور .
إن ما يميز المثقف في أي مجتمع من المجتمعات حسب الدكتور هشام شرابي صفتان اثنتان هما :"
[14]"
1- الوعي الاجتماعي : الذي يمكن الفرد من رؤية المجتمع و قضاياه من زاوية شاملة ، و من تحليل هذه القضايا على مستوى نظري متماسك .
2- الدور الاجتماعي : الذي يمكن وعيه الاجتماعي من أن يلعبه ، بالإضافة إلى القدرات الخاصة التي يضفيها عليه اختصاصه المهني أو كفايته الفكرية .
فصفتا الوعي الاجتماعي و الدور الاجتماعي صفتان متكاملتان لدى أي شخص حيث يمكن الوعي الدور من الآداء الواعي و الفعال و بلوغ الهدف المنشود و يزيد الدور الوعي وعيا إضافيا كنتيجة للممارسة الميدانية التي تزيد من تفتح الفرد على القضايا التي يتصل بها و يشتغل عليها فيكتسب بذلك قدرة أكبر لتكييفها و تسييرها بوعي و دراية محكمين مما يزيد من نجاحه و يوسع من دائرة التحكم فيها والسيطرة عليها .
و يجعل محمد محفوظ للمثقف ثلاثة محددات أساسية هي :"
[15]"
1- القدرة على التفكير : و هي صفة خاصة لا تبذل لشخص يكتسب المعارف الغزيرة و لكن تبذل و تعطى فقط للقادر على إنتاج الفكر و صناعة الثقافة .
2- الصلة بالعلم و المعرفة : و تتحدد بالحب و الرغبة الذاتية في اكتساب المعرفة و تعميق قيم العلم في الذات و في المحيط الاجتماعي من جهة ، و من جهة ثانية بالتضحية و الفداء في سبيل العلم و المعرفة بحيث تكون أهم أولوياته في الحياة هي اكتساب العلم و تعميم المعرفة و تحقيق قيمها في الواقع الخارجي .
3- دوره في تعيين المصداق الخارجي : فليس المثقف من يحمل معرفة و فكرا فحسب بل هو أيضا من يمتلك القدرة على تحديد مصاديق لما يحمل من أفكار و معارف و رؤى فيهتم ببيانها و توضيح كيفيات تطبيقها في الواقع .
و قد اتصل مفهوم المثقف بصفة " الثورية " في المجتمع الاشتراكي المناضل من أجل سيطرة الطبقة العاملة على الأوضاع و الإطاحة بالنظام الرأسمالي ، كما اقترن مجموع المثقفين الثوريين بكلمة انتلجانسيا و هي ظاهرة برزت واضحة في المجتمعات الرأسمالية التي تسودها ظروف العجز و عدم القدرة على التنمية الاجتماعية و الاقتصادية وفق النمط الرأسمالي فيبرز هنا " دور خاص و حاسم لفئة اجتماعية تطرح بديلا للتنمية الرأسمالية و تعبر عن هذا البديل في مشروع إيديولوجي و ثقافي و سياسي شامل ، وتقوم بتنظيم الجماهير الشعبية و قيادتها "
[16] ، و هذه هي الأنتلجانسيا ، لكن الأنتلجانسيا المرتبطة بالطبقة العاملة ( البروليتاريا ) تقابلها انتلجانسيا أخرى مرتبطة بالنظام الرأسمالي فكل نظام له مثقفوه الذين يبثون الوعي الطبقي الذي يزيد في حشد الجماهير الشعبية إلى أحد الأطراف فيكون الوعي ثوريا أو محافظا بحسب تموقع هذه الإنتلجانسيا .
إذا لكل طبقة مثقفوها الذين يضمنون استمرارها بما يضفون عليها من وعي و انسجام و يكسبانها القدرة على المواجهة ، و هكذا أجاب أنطونيو غرامشي عن السؤال الذي طرحه في عنصر تكوين المثقفين من كتابة" قضايا المادية التاريخية" : " هل يشكل المثقفون طبقة اجتماعية قائمة بذاتها أم أن لكل طبقة اجتماعية فئة متخصصة من المثقفين ؟."
[17]
يجيب غرامشي : أنه " مع ولادة كل طبقة اجتماعية تقوم أصلا على ممارسة وظيفة مخصوصة في عالم الإنتاج الاقتصادي ، تولد عضويا مجموعة أو أكثر من المثقفين الذين يضفون على هذه الطبقة انسجامها و وعيها لوظيفتها ليس في المجال الاقتصادي و حسب ، و إنما في المجالين الاجتماعي و السياسي أيضا "[18].
و هكذا ربط غرامشي المثقف بصفتين أساسيتين هما صفة " المثقف العضوي "و " المثقف التقليدي " من خلال ارتباطهما بطبقة أساسية أي حاكمة أو متطلعة و لها القدرة على الوصول إلىى يومنا هذا يصل إلى عشرة آلاف عنوان ، أي يساوي ماتر الحكم ،" فالمثقف العضوي هو الذي يرتبط وجوده بتكون طبقة متقدمة فهو بالتالي مثقف الكتلة التاريخية الجديدة ، والمثقف التقليدي هو المرتبط بطبقات زالت أو في طريقها إلى الزوال ، أي طبقات تنتمي إلى كتلة تاريخية سابقة"
[19] .
و في سياق تعزيز دور المثقفين العضويين الذين يزيدون من تماسك الطبقات التي ينتمون إليها تعمل هذه الأخيرة على احتواء أو استبعاد المثقفين التقليديين الذين يشكلون مصدر خطر على سيادتها و وجودها ، فمن " أهم مميزات كل طبقة تتطور باتجاه السيطرة على الحكم نضالها من أجل استيعاب المثقفين التقليديين و غزوهم "إيديولوجيا " ، و بالقدر الذي تتمكن فيه الطبقة الاجتماعية من توليد مثقفيها العضويين خلال اضطلاعها بعمليتي الاستيعاب و الهضم ، بذلك القدر تتسارع وتيرة هاتين العمليتين و تزداد فاعليتهما "
[20] .
و أهم ما يميز نظرية غرامشي هذه تموقع المثقفين بين الدور الذي يؤدونه و الوضع الذي يحتلونه نظريا و واقعيا فنشاط المثقف و دوره في التنظير و تعزيز القيم المرتبطة بالطبقة التي ينتمي إليهاو يرتبط بها و يعزز بقاء هذه الطبقة و يعمل على تقويتها و بالتالي تقوية و تدعيم مركزه و وضعه داخلها فيكون لدوره بالتالي أثره الواضح في موضعته داخل هذه الطبقة و في طبيعة علاقته معها و مع مختلف الطبقات الأخرى .
ثم أن الدور الذي يؤديه المثقف في أي مجتمع كان وحده الذي يضع المثقف في وضع معين فيكون مساندا للسلطة أو معارضا لها و يكون مبشرا بقيم معينة أو منفرا منها ، و هو وحده الذي يصنع له مكانته الاجتماعية و العلمية و يبعده عنها ، و لكن بالمقابل أليس للوضع الذي يعيشه المثقف أثر في صنع هذا الدور الذي يؤديه بالذات ؟
يبرز لنا الواقع الكثير من المساومات السياسية التي تستهدف المثقف و ضمه إلى الصف بغرض إضفاء الشرعية العلمية على الممارسة السياسية أو تهميشه و الحيلولة دون فعاليته الفكرية و العلمية لئلا يحول دون تمرير المشاريع الإيديولوجية و الاجتماعية التي تتبناها الجهة المسؤولة عن هذه المساومات .
كما تعمل البيئة أو الوضع المؤدلج ( من الأيديولوجيا ) على تكييف دور المثقف و توجيهه فيصبح دوره هنا تابعا للوضع الذي يحياه و هو مرتبط بجماعة بشرية تعيش وصفا معينا كأن ينذر المثقف نفسه للدفاع عن قيم هذه الجماعة لأن هذا الوضع جعله يؤمن بها و يسخر علمه و ثقافته لخدمتها أو أن يدفع هذه القيم عن تلك الجماعة إذا حدث أن أثر فيه وضع بيئة أخرى مخالفة تمثل قيهما الفكرية والأخلاقية ، و في كلتا الحالتين فإن الوضع الفكري و الإيديولوجي الذي يعيشه المثقف في البيئة التي ينتمي إليها جسديا أو فكريا يعمل على تحديد دور ه الثقافي و الاجتماعي .
و إشكالية الوضع و الدور هذه يمكن أن تأخذ طرحا آخر فقد حددنا علاقة الوضع بالدور من خلال " ما هو كائن " عليه هذا الوضع لا من خلال " ما يجب أن يكون " فوضع المثقف بصيغة " ما هو كائن " أي الوضع الذي يعيشه المثقف له أثره الواضح – كما قدمنا – على الدور الذي يؤديه و اتجاهات هذا الدور ، لكن الوضع الذي يجب أن يكون عليه المثقف هو وضع من نوع آخر إذ يتحدد بصفة المثقف ذاته و هذا الوضع الذي يجب أن يكون عليه يكاد يكون متطابقا مع دوره الفعلي الذي يلعبه إذ الفرق الوحيد هو فقط فرق بين الصفة و الموصوف .
نجد من الداعمين لهذا الرأي المفكر علي حرب الذي يقر بأن الوضع الذي يجب أن يحتله المثقف هو وضع الإنتاج و الإبداع و النقذ الثقافي ، فصفة المثقف من هذه الناحية إذا هي النقذ و الإبداع و الإنتاج والمثقف هو الموصوف بهذه الصفة فهو الناقذ و المبدع و المنتج للثقافة و المعرفة و دوره يتحدد بهذا الوضع الذي يجب أن يكون عليه ، فهذا الوضع إذا لا يعدو أن يكون تلك العمليات الثقافية كلها ، و عليه رفض علي حرب أن يتناسى المثقف مهمته الأساسية لصالح مهام أخرى تحل محلها على غرار مهمة السياسي و الداعية و النبي و الكاهن و غير أولئك ، وراح يحدد دور المثقف في إبداع الفكر المؤثر وحده في مجرى الأحداث و تغيير الأوضاع و في خضم هذا التحديد طرح علي حرب جملة من الأوهام التي يتخبط فيها المثقف و هذه الأوهام كثيرة حسبه و لكنه اكتفى بخمسة منها هي :"
[21]"
1- وهم النخبة ، و تعني سعي المثقف إلى جعل نفسه وصيا و قائدا للمجتمع و الأمة ، لكنه سرعان ما يجد نفسه محاصرا نتيجة نرجسيته و تعامله مع نفسه على نحو اصطفائي نخبوي .
2- وهم الحرية : و هو اعتقاد المثقف أن بإمكانه تحرير الشعوب من أشكال التبعية و الفقر و التخلف دون الاهتمام بالإنتاج الفكري الذي يساهم في معرفته بالإنسان و المجتمع و السياسة .
3- وهم الهوية : و هو اعتقاد المثقف أن بإمكانه البقاء قابعا على تراثه دون أن يجدد و يبدع فيه و هو ما جعله ينشغل بهذا التراث دون أن يشتغل عليه من خلال عمل فكري مبدع .
4- وهم المطابقة : و هو اعتقاد المثقف أن الحقيقة جوهر ثابت سابق عن التجربة يمكن الإطباق عليه من خلال الخطابات و التصورات و ترجمته واقعيا من خلال المؤسسات و التشريعات .
5- وهم الحداثة : و هو أكبر عائق بين المفكر و استقلاله الفكري إذ أن مضمونه هو تعلق الحداثي بحداثيته تماما كتعلق التراثي بتراثه فالاثنان مقلدان .
إن توجيه المثقف نظره إلى مجال اختصاصه هو الضامن الوحيد له للنجاح ، و مجال اختصاصه كما أوضح علي حرب هو الاشتغال بالفكر أي إنتاج الأفكار في مجالات الثقافة المختلفة و لقد اعتبرت إحدى المهام الأساسية للمثقف سعيه " لبناء العقل و الوعي و تحصينهما من كل المغريات و الشبهات و تبني قضايا المجتمع و ممارسته التوعية و العمل على التغيير و البناء "
[22] ، و لكن بناء العقل و الوعي تبدأ من الذات فالأولى هو بناء الوعي الذاتي بمعنى وعي المثقف بذاته كمثقف أي وعيه بدوره ، بما يجب أن يقوم به و مع ماذا يتعاطى و أي الوسائل يستخدم و أي الطرق ينتهج ثم إذا حصـل كل هذا سعى إلى بناء وعي المجتمـع و الأمة من المنطلق ذاته .

الهوامش :

[1] - الطاهر لبيب - سوسيولوجيا الثقافة -. دار الحوار للنشر والتوزيع- اللاذقية، سوريا- ط 3- 1987–– ص 28 .
[2] - سمير أمين – التمركز الأوروبي نحو نظرية للثقافة – موفم للنشر – الرغاية – الجزائر – 1992 – ص 3 .
[3] - مالك بن نبي – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي – ترجمة محمد عبد العظيم علي – المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية – وحدة الرغاية – الجزائر – 2005 – ص 55 .
· المرآوية : نسبة إلى المرآة .
[4] - محمد عابد الجابري – إشكاليات الفكر العربي المعاصر – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت ، لبنان – ط 5 – 2005 – ص 14 .
[5] - خليل أحمد خليل و محمد علي الكبسي – مستقبل العلاقة بين المثقف و السلطة – سلسلة حوارات القرن الجديد - دار الفكر – دمشق – سوريا –ط 1 –2001 ص13 .
[6] - مالك بن نبي – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي – مرجع سابق – ص 57 .
[7] - سليمان العسكري –" الثقافة و الإنسان العربي – إطلالة على المشهد الراهن-" – مجلة العربي – مجلة شهرية – وزارة الإعلام – الكويت – عدد 509 – 2001 – ص 11 .
[8] – نفس المرجع – ص 11 ، 12 .
[9] - نفس المرجع – ص 12 .

[10] - محمد محفوظ – الحضور و المثاقفة ( المثقف العربي و تحديات العولمة ) – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – ط 1 – 2000 – ص 84 .
[11] - محمد عابد الجابري – المسألة الثقافية في الوطن العربي - مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت ، لبنان- ط2-1999 – ص 103 .
[12] - محمد أركون – قضايا في نقد العقل الديني – كيف نفهم الإسلام اليوم – ترجمة هاشم صالح – دار الطليعة – بيروت لبنان – ط 1 - 1988 – ص 221 .
[13] - مجموعة من الكتاب – دور المثقفين في الوطن العربي و ديار الإنتشار في نهضة بلدانهم و دعم القضايا العربية – المجمع الثقافي العربي – بيروت، لبنان – ط 1 – 2003 – ص 99 .

[14]- هشام شرابي – مقدمات لدراسة المجتمع العربي – دار الطليعة للطباعة و النشر – بيروت – لبنان – ط 4 – 1991 –
ص 98 .
[15] - محمد محفوظ – مرجع سابق – ص 22 ، 23 .

[16] - سمير أمين – مرجع سابق – ص 188 .
[17] - أنطونيو غرامشي – قضايا المادية التاريخية – ترجمة فواز طرابلسي - دار الطليعة للطباعة و النشر – بيروت ، لبنان – ط 1 – 1971 – ص 127 .
[18] - نفس المرجع – ص 127 .
[19] - الطاهر لبيب – مرجع سابق – ص 39 .
[20] - أنطونيو غرامشي – مرجع سابق – ص 133 .
[21] - علي حرب – أوهام النخبة – أو نقد المثقف – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – بيروت – ط 2 – 1998 –
ص 97 .
[22] - م. رابح -" المثقف و الفقيه : إشكالية الموقع و الدور " - المثقف – أسبوعية وطنية جزائرية مستقلة - عدد 6 - من 4 إلى 12 جويلية 2007 – ص 07 .