الخميس، 26 نوفمبر 2009

عن الاختلاف في نشأة الجامعة

سفيان ميمون
ليست الجامعة ولا تقاليدها وليدة العصر الحاضر و لكنها ضاربة بجذورها في الماضي البعيد حتى صار الباحث في كنهها يذهل عن وصفها و تعريفها و منحها مفهوما شاملا و جامعا نتيجة التداخل بين مكوناتها و أجزائها ناهيك عن تحديد بوادرها الأولى .
إن عملية التحديد هذه قائمة لدى المهتمين بهذا الشأن على أساسين اثنين :
- أولا قضية الشكل و التسمية .
- ثانيا قضية المقومات .
1- قضية الشكل و التسمية :
يرجع كثير من الدارسين ظهور الجامعة إلى العصور الوسطى في أوروبا حيث تقترب جامعات هذا العصر في شكلها من جامعات عصرنا الحالي ، فخلاله " طورت الجامعات كثيرا من ملامحها التي تسودها اليوم من اسم و موقع مركزي ، و أساتذة على درجة من الاستقلال الذاتي ، و طلبة و نظام ومحاضرات و إجراءات للامتحانات و الدرجات بل حتى كيان إداري "
[1]و هو الأمر ذاته الذي بينته الموسوعة البريطانية حيث أوردت أن " الجامعات الحديثة قد تطورت عن مدارس العصور الوسطى التي كانت بمثابة المدرسة العامة أي المكان الذي يستقبل طلاب العلم الوافدين من جميع الجهات "[2] .
لقد تركز هؤلاء الطلاب في مراكز العلم الأولى و كانت نشأة المدن عامل جدب و تركيز مهم لما تتطلبه حاجات الجماعة إلى الطب و القانون و الدين و الفلسفة و غيرها فبرزت جامعات في جنوب أوروبا و وسطها كجامعة بولونيا في إيطاليا التي اختصت في القانون و جامعة سارلنو التي عرفت بتدريس الطب ، كما كان اللاهوت يدرس في جامعة باريس ( السربون ) التي اكتست قيمة خاصة " و لما كان اللاهوت موضوع الدراسة الأسمى وقتذاك اطلق على هذه المدرسة اسم – سيدة العلوم العليا – "
[3] ، و كانت جامعات الشمال كأوكسفورد و كمبردج في انجلترا و جامعات ألمانيا بأسرها تقليدا لجامعة باريس التي سبقتهم إلى إرساء قواعد تنظيمية و منهجية في التعليم الجامعي ، فيما اتجهت أمريكا إلى تقليد الجامعات و المعاهد الانجليزية .
وبمرور الزمن تخفت شهرة بعض الجامعات كسالرنو و تظل أخرى شامخة إلى يومنا هذا ، غير أن ما يجب تقريره حسب جوزيف نسيم يوسف هو " أن جامعة القرن العشرين إنما هي سليلة و وريثة جامعتي باريس و بولونيا في العصر الوسيط ، فقد كانت هاتان الجامعتان هما الصخرة التي اقتطعنا منها،و الحفرة التي نقبنا فيها و المنهل الذي نهلنا منه ، لقد ظل التنظيم الأساسي للجامعة كما هو دون أن يطرأ عليه أي تغيير ، كما ظل الامتداد التاريخي قائما متصلا ، فهم الذين خلقوا التقاليد الجامعية المعروفة في العالم الحديث ، تلك التقاليد التي نراها في كافة معاهدنا العليا الجديد منها و القديم، و التي كان جميع رجال الجامعات و الكليات على علم ودراية بها "
[4] .
إن ما يمكن ملاحظته في نشأة الجامعات و تطورها في أوروبا و أمريكا هو ذلك الخط الزماني والمكاني الذي سارت وفقه هذه الجامعات فمن الساحل الجنوبي الأوروبي إلى أواسط أوروبا فشمالها ثم أمريكا من الناحية الجغرافية و كذلك تدرجها على الخط نفسه من الناحية الزمنية إذ نشأت أولى الجامعات في جنوب أوروبا وفي إيطاليا بالضبط ثم فرنسا من خلال جامعة باريس ثم انجليترا من خلال أوكسفورد و كمبردج اللتين كانتا تقليدا لجامعة باريس - كما ذكرنا – إلى جانب الجامعات الألمانية ثم الأمريكية التي نشأت مؤخرا على شاكلة جامعات انجلترا .
إن المتتبع لهذا التطور الزمكاني الذي بعث الجامعات الأوروبية خلال هبةعلمية متجهة من جنوب أوروبا إلى شمالها لا يمكن له أن يسلم ببساطة أن المدن التي تحتضن جامعتي سالرنو و بولونيا هي مركز الانطلاق ، ذلك أن زمن هذه الهبة كان متزامنا مع توافد العلوم العربية على أوروبا و إقبال الأوروبيين على طلب العلم لدى العرب الذين كانوا على عهد بازدهار العلوم المنطقية و المادية على حد سواء ، و في هذا الشأن يقول الدكتور جوزيف نسيم يوسف " على أية حال فقد حدث أن تسرب إلى الغرب فيما بين 1100 و 1200 م سيل عارم من العلم و المعرفة الجديدين،و قد تسرب بعض هذا العلم عن طريق إيطاليا و صقلية ، و لكن الجانب الأكبر منه وصل إلى الغرب عن طريق العلماء العرب في إسبانيا بصفة خاصة "
[5] .
و يرى ايدجار فور أن نشأة الجامعات في العصور الوسطى كانت نتيجة لازدهار المدن التجارية التي عمل أعيانها من الطبقة البرجوازية الناشئة على المحافظة على ما تتمتع به من حرية و شهرة بفضل إقامة جامعات في هذه المدن تكون مصدر تلبية للحاجات المختلفة للمدينة بما يضمن بقاء استمرارها ، غير أن " الفضل في هذا الشأن يرجع إلى العالم العربي و الإسلامي الذي انتشرت ثقافته المزدهرة إلى أقاصي آسيا و إفريقيا و أوروبا "
[6] .
كما يؤكد محمد منير مرسي أن مناهج الجامعات في العصور الوسطى " اعتمدت على حصاد الفكر العربي و كانت مؤلفات العلماء العرب في مختلف الفروع و الميادين مراجع للدراسة بهذه الجامعات لقرون طويلة "
[7] .
إن هذا الامتداد الفكري و العلمي الذي يربط بين زمن يرى فيه البعض مولد و منشأ أولى الجامعات و بين ما قبله حيث العلوم تتشكل و تتطور دون أن تضمها جامعة بعينها هو الذي جعل أمر تحديد نشأة الجامعات الأولى و أساسه أمرا معقدا ، فبينما يعرض باحثون جامعات العصور الوسطى على أنها أولى الجامعات نشأة و ظهورا بناء أو تسمية يرى باحثون آخرون بأن نشأة الجامعة موغل في الزمن الغابر .
2- المقومات :
الجامعة قبل أن تكون بناء هي في بادئ أمرها روح قوامها العلم و المعرفة ، فطالما أن التعليم هو الدعامة الأساسية لقيام الجامعة و أن هذه الأخيرة لن تقوم لها قائمة دون هذه الصناعة*
[8] ، فإن نشأة الجامعة يكون مترادفا من خلال هذه الرؤية مع نشأة التعليم ذاته .
لقد عرفت الحضارات القديمة التعليم و استخدمته أساسا لقيام حضاراتها تلك ، وعلى هذا يعتبر البعض فكرة الجامعة قائمة مقدما على التعليم الذي أسهم في بناء هذه الحضارات بل وفي بناء الحضارات التي تليها خذ لذلك مثلا فلسفة اليونان و قوانين الرومان و أثرهما في الحضارة الأوروبية الحديثة .مع الاعتبار بأن هذه الحضارات هي صنيع الجامعة و علمائها الذين نهلوا من علم و فلسفة و قانون الحضارات السابقة.
" ففكرة الجامعة يرجعها البعض إلى أعماق التاريخ فيتتبعها إلى أيام الحضارات القديمة في الصين و بابل و مصر كما فعل الدكتور محمد الهادي عفيفي الذي يعتبر الجامعة من الخصائص الرئيسية للمجتمعات القديمة و من أهم مؤسساتها ، غير أن البعض الآخر يكتفي بالوقوف عند أكادمية أفلاطون ، أو ليسيه أرسطو ، أو رواق زينون ، أو حديقة أبيقور ليصفها بأنها كانت بمثابة أولى الجامعات حيث كان لكل مؤسسة من هذه المؤسسات رسالة تؤديها ، و معلم يقوم على التدريب فيها و مديرون يقبلون على الاستماع إلى معلمهم .... "
[9] .
كما يعتبر الدكتور محمد المهين أكاديمية أفلاطون أول أكاديمية تحمل خصائص التعليم الجامعي فلقد كانت حسبه " أول أكاديمية منظمة يمكن اعتبارها بشكل أو بآخر على أنها درجة من درجات التعليم العالي ( الجامعي ) و كانت هذه الأكاديمية تدعو إلى الحق من أجل الحق و هي تدعو أيضا إلى حق الفلاسفة في أن يصبحوا ملوكا "
[10] .
إن الذي يبني تصوره لفكرة الجامعة على هذا الأساس لا يمكنه بأية حال من الأحوال أن يغفل عهد النهضة العلمية و الثقافية الإسلامية حيث كان التعليم مزدهرا و العلم مشعا بنوره أقطارا واسعة في العالم الإسلامي و في غيره من الأقطار و دليل ذلك أن الأزهر الذي بني على يد الدولة الفاطمية في القرن العاشر من الميلاد (970 م ) كان بحق جامعة منفردة على الرغم " من أنه لم يطلق عليه اسم جامعة إلا عندما أعيد تنظيمه عام 1961 "
[11] فضلا عن جامعة قرطبة في إسبانيا خلال القرن العاشر وقبلهما جامعا الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب حيث كانت كلها منارات للعلم و أعشاشا لتفريخ العلماء ، كما كان بيت الحكمة في بغداد حيث نجد فيه الكثير من مهام الجامعة الحديثة من محاضرات و مناظرات وكتب و ترجمة بإشراف الخليفة المأمون " فعلى الرغم من أن نواة هذا البيت تعود إلى " خزانة الحكمة " التي أ سسها والده – هارون الرشيد – فإنه غدا في عهده مجمعا ثقافيا و علميا متكاملا ، حيث اشتمل على قاعات للترجمة و النسـخ و البحث و المطالعة و المناظرة و على مكتبة مفتوحـة لمن يرغب في العلم ، و اجتمعت في هذا البيت " كنوز الثقافة العربية الإسلامية مع كنوز الثقافات الأجنبية "[12] .
و خلال العصور التي سادت فيها الثقافة الإسلامية كان المسجد يؤدي المهام التي تؤديها جامعة اليوم فلقد وصفه طه حسين بأنه " الصورة الأولية للجامعة في الإسلام "
[13] كما يقر طه الوالي بأن" المسجد كان يقوم في الماضي بنفس الدور الذي تقوم به اليوم المؤسسات التعليمية الجامعية في حقول المعرفة والعلم و الفكر فكان منتدى لجميع أنواع العلوم من طب و هندسة و بلاغة و غيرها من العلوم التي ازدهرت في أحضان الأمة الإسلامية ، و الحديث عن كبار العلماء الذين يعتز بهم الفكر الإسلامي كل هؤلاء العلماء بدأو حياتهم العلمية في المساجد "[14] .
و ما يمكن استخلاصه من هذا العرض أن فكرة الجامعة كانت موجودة قبل إحداث جامعات العصور الوسطى في أوروبا فجامعات سالرنو و بولونيا و باريس و أكسفورد و كامبردج كانت نتيجة لتدفق العلوم من الشرق العربية منها و اليونانية ، هذه الأخيرة لم تكن منبعثة من فراغ و لكن هذه العلوم كان أكثرها منظما - بادئ الأمر – في أكاديميات و جامعات بعينها لا تقل شأنا و لا حتى تنظيما من جامعات أوروبا في العصور الوسطى كأكاديمية أفلاطون و جامعات الأزهر و قرطبة و غيرها ، غير أن كثيرا من الدارسين يصرون على أن جامعات العصور الوسطى في أوربا و بالذات جامعات سالرنو و باريس هي الجامعات الأولى ظهورا و نشأة .
الهوامش
[1] - سامي سلطي عريفج – الجامعة و البحث العلمي – دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع – عمان ، الأردن – ط 1 – 2001 – ص 21 .
[2] - نفس المرجع- ص 20 .
[3] - جوزيف نسيم يوسف – نشأة الجامعات في العصور الوسطى – دار النهضة العربية للطباعة و النشر – بيروت - 1981– ص 266 .
[4] - نفس المرجع– ص 239 ، 140 .
[5] -– نفس المرجع- ص 243 .
[6] - إيدجار فور – تعلم لتكون – ترجمة حنفي بن عيسى – اليونيسكو / الشركة الوطنية للنشر و التوزيع – الجزائر- ط2 – 1976 –ص 50 .
[7] - محمد منير مرسي – الاتجاهات الحديثة في التعليم الجامعي المعاصر – عالم الكتب – القاهرة – ط 1 – 2002 – ص 13
[8] - يعتبر العلامة عبد الرحمان بن خلدون أن التعليم من جملة الصنائع فحين يمضي في إيضاح الفرق بين أهل المشرق و المغرب في هذه الصناعة يقر أن " أهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم ، بل و في سائر الصنائع " – لمزيد من التفاصيل انظر مقدمة ابن خلدون – فصل: في أن تعليم العلم من جملة الصنائع .
[9] - سامي سلطي عريفج – مرجع سابق - ص 17 .
[10] - محمد مهيني – الإدارة الجامعية – مطابع الرسالة – الكويت – ط 1 – 1984 – ص 14
[11] - محمد منير مرسي – مرجع سابق – ص 7 .
[12] - عادل زيتون – " العباسيون يرعون العلم و العلماء" – مجلة العربي – وزارة الإعلام – الكويت – عدد 509 – أفريل 2001 م – ص 76 .
[13] - سامي سلطي عريفج – مرجع سابق – ص 18 .
[14] - طه الوالي – المساجد في الإسلام – دار العلم للملايين – بيروت ، لبنان - دون سنة نشر – ص 164 ، 166 .

الأحد، 22 نوفمبر 2009

رؤية مالك بن نبي للثقافة

سفيان ميمون
ينظر المفكر الجزائري مالك بن نبي إلى الثقافة على أنها ذلك التفاعل الذي يحصل بين عوالم ثلاثة، عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء والتأثير والتأثر حاصل بين هذه العوالم بما يخلق ثقافة أو يحركها في اتجاه معين، والثقافة عنده هي "العلاقة التي تحدد السلوك الاجتماعي لدى الفرد بأسلوب الحياة في المجتمع ، كما تحدد أسلوب الحياة بسلوك الفرد "
[1]
ويبين مالك بن نبي أن أي مجتمع في بدايته لا يتهيأ له أن يشرع في بناء عالم أشيائه، ولكن عالم أفكاره هو الذي يبدأ في التكوين انطلاقا من بوادر تفكير إيديولوجي، ولمعرفة دور الأفكار في ظاهرة التثقيف فإنه من الضروري تحديد الظروف التاريخية و الاجتماعية التي تؤدي دورها فيها، فالنشاط الاجتماعي والثقافي لفكرة ما مرتبط في الواقع ببعض الشروط النفسية الاجتماعية التي بدونها تفقد الفكرة فاعليتها، إن الفكرة عند مالك بن نبي ليست مصدرا للثقافة ولكنها مرتبطة بطبيعة علاقتها بمجموع الشروط النفسية الزمنية التي ينطبع بها مستوى الحضارة، وهو مستوى قد يتغير حسبه بطريقتين : "
[2]"
1- عندما يرتفع تعرض له أفكار ليست من بين القوى الجوهرية التي نتجت عنها الحركة التاريخية، فإذا بهذه الأفكار تتقادم ثم تختفي.
2- وعندما يهبط تنقطع صلة بعض الأفكار بالوسط الاجتماعي ذاته أي تنقطع من منابع خلقية وعقلية صدرت عنها فتكسب هذه الأفكار وجودا صناعيا غير تاريخي وبذلك تفقد كل معنى اجتماعي .
وما يمكن تقريره من فلسفة مالك بن نبي حول الثقافة أن هذه الأخيرة هي تعبير حسي عن العلاقة التي تربط الفرد بالعالم المحيط به في جانبه الروحي ، فالإعلان عن موت الفرد ثقافيا يتم بمجرد ابتعاده عن المجال الثقافي الذي يحيط به ، ثم إن ثمة علاقة واضحة بين مجالين يعدان بحق قطبي الثقافة هما الجانب النفسي و الجانب الاجتماعي ، و أن التفاعل بينهما أمر واضح في مواقف السلوك المختلفة ، لقد بين مالك بن نبي هذه العلاقة بمثال من التاريخ الإسلامي عن عمر بن الخطاب الذي خطب في المسلمين حين توليه الخلافة قائلا : " أيها الناس من رأى منكم فيﱠ اعوجاجا فليقومه " فكان الرد من أحد البدو البسطاء " و الله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا " ، يقول مالك بن نبي : " و الواقع أن عمر في قولته تلك كان متجها صوب المجتمع الإسلامي ، و أن الذي أجابه إنما هو ذلك المجتمع على لسان البدوي، وهكذا نرى بطريقة مباشرة العلاقة المتبادلة بين الجانب النفسي والجانب الاجتماعي مجسدة في رجلين كان موقفهما انعكاسا لأسلوب الحياة من ناحية و تعبيرا عن سلوك معين خاص بالمسلم في ذلك العصر من ناحية أخرى ، وفي الوقت ذاته يظهر هذا التشابه في الحدود الروحية للمجتمع حين يرسم داخل هذه الحدود معالم ثقافة محددة، فالخليفة المسلم والراعي المسلم يتصفان بسلوك واحد لأن جدور شخصيتهما تغور في أرض واحدة هي المجال الروحي للثقافة الإسلامية"
[3].
ومما يسلم إلى الحكم على الثقافة خيرها وشرها، جميلها وقبيحها مقاييس ذاتية خاصة تسمح بتحديد دور العقل و اتجاهه و تمييز مجتمع معين عن مجتمع آخر و هي بذلك المعنى تحدد المباني الشخصية والاجتماعية في الفرد مما يؤول بها إلى تحديد رقعتها و حدودها ، وما هذه إلا خاصية الثقافة حسب مالك بن نبي ، و يعمل الفرد حسبه على انتقاء المقاييس الذاتية التي تحدد انتماءه إلى نمط ثقافي معين دونما شعور منه و لا وعي و إنما يتلقاها من محيطه الذي يحيا فيه عفوا .
و يبدو أن لمالك بن نبي نظرة شاملة في كيفية إعداد ثقافة معينة فأية ثقافة لا يمكن لها أن تقوم وتنشأ إلا في أحضان البيئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد بحيث تنشأ علاقة تفاعلية بينهما (البيئة والفرد) و هو ما عبر عليه مالك بن نبي بأسلوب الحياة عندما وصف البيئة و السلوك الاجتماعي حينما وصف الفرد في حركيته إزاء هذه البيئة ، فالإطار الثقافي الأشمل هو المحدد لأية ثقافة من شأنها أن تتشكل ، و تتشكل معها القيم الثقافية التي تكون نتيجة لهذا الإطار في كليته و ليس نتيجة لجزء منه كالمدرسة مثلا التي يخطئ الكثير في اعتبارها المنتجة لهذه القيم و المحددة للسلوك الفعال ، فالمدرسة تعد عنده عاملا مساعدا من عوامل الثقافة ، و هي وحدها ليس بمقدورها أن تحل مشكلة الثقافة و لكن حلها يكون في إطار ثقافي شامل .
و ما يطبع العلاقة بين قطبي الثقافة عند مالك بن نبي هو " وجود نشاط متبادل بين أسلوب الحياة وبين السلوك بطريقة تجعل واحدها يرمي إلى الاحتفاظ بالآخر في خط مطلبه واقتضائه الخاص، وبعبارة أخرى فإن المجتمع يقتضي سلوكا معينا من الأفراد ، و هؤلاء يقومون برد الفعل عن طريق اقتضائهم الخاص في صورة أسلوب معين للحياة بحيث يتم هذا التبادل الذي يتولى تعديل الإطار الثقافي بطريقة ذاتية في صورة إرغام اجتماعي من ناحية و عملية نقذية من جهة أخرى "
[4].
فهدف الثقافة التي تختص بها بيئة معينة هي أن تخلق سلوكا يتبناه الأفراد يكون متوافقا مع خصائصها و ميزاتها بحيث يكون هذا السلوك ملزما و قابلا للرفض و التعديل في الوقت ذاته ، انطلاقا من حركية الإنسان و نشاطه العقلي ، و انطلاقا كذلك من طبيعة العلاقة بين أسلوب الحياة و السلوك الاجتماعي الذي يبرز فيه عنصر التفاعل بشكل واضح ، فكما أن لأسلوب الحياة أن يؤثر في السلوك فإن لهذا الأسلوب أن يتأثر بالسلوك كذلك، ففي تقريره لهذه العلاقة يميز مالك بن نبي بين مجتمعين هما المجتمع البدائي و المجتمع التاريخي مبرزا طبيعة السلوك الذي يمكن أن يفرزه أي من هذين المجتمعين "فعندما يقوم مجتمع بدائي بوضع ( المحرمات ) حول تقاليده وأذواقه و استعمالاته لا يكون المحرم مدعاة للضحك في ذاته ، و لكنه الفراغ الثقافي أو – اللاثقافة – التي يقوم بالدفاع عنها وأعني بهذا مجموعة الأسباب التي ستبقي هذا المجتمع على ما هو عليه من ركود ، أما بالنسبة لمجتمع تاريخي فإن دفاعه عن أسلوب حياته هو دفاع عن شخصيته ،وعن مبدأ إدماج أفراده في نطاقه وتحديد علاقتهم به، بحيث يصبحون بمثابة التعريف به، كما يصبح مجتمعهم بمثابة المعرف لهم، فالإرغام الاجتماعي و الموقف النقدي للفرد :هما المظهران الأساسيان لثقافة معينة في وظيفتها "
[5] .
الهوامش:
[1] - مالك بن نبي – مشكلة الثقافة – ترجمة عبد الصبور شاهين – دار الفكر – دمشق – ط 4 – 1984 –ص 43 ।
[2] - مالك بن نبي – نفس المرجع – ص 44 .
[3] - مالك بن نبي – نفس المرجع – ص 52 .
[4] - مالك بن نبي – آفاق جزائرية – ترجمة الطيب شريف- مكتبة النهظة الجزائرية – الجزائر – 1991 – ص 132 .
[5] - مالك بن نبي – نفس المرجع – ص 132، 134 .